
في هذا الضوء الخافت الذي يلي العاصفة، تبرز أصوات ترفع راية الثقافة بينما تمسك في اليد الأخرى مرايا مشوهة. يتحدثون بلسان العقل والتنوير، لكن خطابهم يتنفس هواءً عتيقاً، هواء الطائفة والعشيرة والإقصاء المقدس. كيف يُدَّعى لصاحب الفكر أن يكون مثقفاً وهو يختزل الوطن إلى أجزاء متنافرة، ويرسم حدوداً تشرعن التهميش وتزيّن القطيعة؟ كيف يُصنع المثقف من قوالب تبرر القتل، أو تسبح بحمد السلطة – أيَّة سلطة – دون أن ترفع جفناً لتساءلها، أو تشير بإصبع إلى ثقلها؟ إنها صناعة غريبة، تحول صاحب الكلمة إلى كاتب شيكات على بياض، موقعة باسم الضمير الميت.
ويسقط الضوء على مشهد آخر يثير الدهشة والمرارة. وجوه عرفناها في خندق المعارضة، تحمل شموعاً ضد الظلام، فإذا بها، بين ليلة وضحاها، تتحول إلى منابر تهتف باسم النظام الجديد، بعد رحيل القديم. تحول مفاجئ، كأنما تقلبت المرايا بلمسة ساحر. لا نبحث عن أبطال خارقين، بل عن سردية أخلاقية واحدة، عن خيط ناظم يربط الأمس باليوم دون أن ينقطع فجأة. هذا الانقلاب ليس مجرد تغيير رأي؛ إنه هزة عنيفة تحت أقدام الثقة التي يضعها الناس في المثقف. كيف يكون عين المجتمع اليقظة وضميره النابض إذا كان موقفه يتبدل مع تبدل الرياح؟ ألا تصبح مرآته مجرد زجاج معتم يعكس ما يُراد له أن يعكس؟
ويأتي الفعل ليكمل الصورة. بعد السقوط، لم تكن الأرض فارغة. لكن آلافاً من الضباط الذين قالوا “لا”، ورجال الدين الذين نادوا بالاعتدال، وأطباء وممرضين حملوا هموم الجرحى، ومثقفين حملوا هموم الفكرة، وجدوا أنفسهم خارج أسوار المؤسسة. طردٌ صامت، أو معلن، دون حوار أو محاكمة أو حتى تهمة واضحة. سؤال يطفو على السطح، ثقيلاً: أليس في هذا التطهير الواسع، هذا الإخلاء القسري من فضاء الدولة، إقصاءٌ ممنهج؟ أليس هو نفيٌ لشرائح من جسد الوطن نفسه، تحت دعاوى قد لا تكون سوى أقنعة جديدة لأشباح قديمة؟
في قلب هذا الضباب، يبرز معنى المثقف الحقيقي، ليس كزينة في صالونات السلطة أو منفاخاً لأبواقها، بل كصوت مستقل، كحارس يقظ عند أسوار الفكر. مهمته ليست التطبيل، بل النقد. ليس التبرير، بل التحليل. ليس التجميل، بل الكشف. مهمته إزاحة الغبار عن العقول، كسر القوالب الجاهزة التي تحبس البشر في سجون الطائفة أو العرق أو الفكرة الأحادية.
والخطر الأعمق يكمن عندما تتحول هذه الأقلام “المثقفة” إلى أدوات لتمرير العنف وتلميع وجه القبح. كمن وقفوا يبررون هجمات طائفية دامية، كتلك التي مست إخوة لنا في السويداء، بحجج واهية كالريح. ينشدون الوطنية وهم يرفعون رايات العشيرة، يتحدثون عن المجتمع المدني وهم يحفرون خنادق الانتماءات الضيقة. تناقض صارخ يكشف أن الولاء تحول من الفكرة إلى القبيلة، من الوطن الجامع إلى الحظيرة الضيقة.
هذا الانزلاق نحو أحضان الولاءات الأولية – الطائفة، العشيرة، العرق – هو نكوص خطير. إنه عودة إلى زمن ما قبل الدولة، حيث كان السيف هو الفصل والحماية تُطلب من العمود لا من القانون. تمجيد هذه العصبيات تحت أي شعار، حتى لو كان “الثورة” أو “الدولة الجديدة”، هو تقويض لمشروع الوطن ذاته. إنه تحويل سوريا من فسيفساء جميلة – وإن كانت مثقوبة – إلى قطع مبعثرة متنافرة، كل قطعة تدور في فلكها الضيق.
الطريق الوحيد هو إعادة بناء بيت الجميع، على أساس متين واحد: المواطنة. المواطنة التي تسع الجميع، لا تميز بين دمٍ ودم، ولا تفضل صوتاً على صوت. دولة يكون القانون فيها هو السيد، والكرامة فيها حق مكفول لكل من على أرضها، بغض النظر عن الاسم الذي يحمله أو المعتقد الذي ينتمي إليه. عندها فقط تستقيم المرايا، ويعود للمثقف مكانه الحقيقي: حارساً للضوء، لا كاسراً للمرايا.
المصدر: نينار بريس
لماذا يحمل البعض راية الثقافة بينما يمسك في اليد الأخرى مرايا مشوهة؟. يتحدثون بلسان العقل والتنوير وخطابهم يتنفس هواءً عتيقاً، هواء الطائفة والعشيرة والإقصاء المقدس. كيف يُدَّعى لصاحب الفكر أن يكون مثقفاً وهو يختزل الوطن إلى أجزاء متنافرة؟؟ .