في إمكان الثورة.. هل تثور الطوائف؟

أحمد الشمام

تعتبر البنى الاجتماعية (قبيلة، طائفة، أقلية دينية) التي ترى نفسها معبرة عن أفرادها في المجال السياسي أو تطرح نفسها كوسيط بين الدولة ومجتمع أبنائها وأتباعها جماعة ما قبل دولتية، والبنية الاجتماعية لها أنساق سلطة وتقليد، وتعتمد العصبية والتحشيد، وتحتكر نخبتها التمثيل الاعتباري لنشاطها؛ كما تمارس نشاطا يهدف لترسيخ التمايز عن الآخر ليس في المجال الثقافي أو الديني، بل في طبيعة النزوع السياسي المؤطر لمصلحة الجماعة وإيلاء تلك المصلحة على الدولة.

عند مقاربة البنى الاجتماعية السورية نجد أنماطا مختلفة فهناك الأقلية العرقية – أكراد، والأقلية الدينية – المسيحية-، والأقلية المذهبية – الطائفة، كما تظهر القبيلة غالبا كنموذج مفاهيمي للبنية والجماعة ما قبل الدولة، لكن المثير أن تظهر القبيلة كشماعة يمكن جلدها في المجال الثقافي العربي نظرا لانتسابها للأكثرية؛ في حين يغيب نقد الطائفة؛ حيث من المعتاد وسم فرد أو جماعة بثقافة قبلية وعشائرية من دون حرج، وقلّ من يصم أحدا بالتعصب الطائفي؛ ولا يتهم بإقصائيته ونمطيته وطائفيته وإن لم يكن ابناً لطائفة أو أقلية.

ينفرد المسيحيون في واقعيتهم، واستيعابهم للتحول الحضاري للدين وهوية الدولة الإسلامية سابقا وحاضرا؛ التي يظهر الدين في مجالها العام، إذ يمتلكون وعي استيعاب الدولة عبر قرون؛ ومنذ العهد الأموي عبر مشاركتهم فيها، ما عكس احتراما متبادلا بينهم وبين الدولة، إضافة إلى طبائع نجمت عن مؤثرات عميقة في الهوية؛ حيث لا يحملون عقدة هوياتية، ويشتركون مع جوارهم المغاير دينيا بنمط حياة مشرقي يكاد يشكل هوية خاصة تميزهم عن مسيحيي الغرب، وتربطهم عادات وتقاليد وأعراف وأنماط حضور الدين في حياتهم؛ أكثر مما يربطهم بالغرب المسيحي، إضافة إلى حملهم انتماء للعروبة الثقافية ولثقافة إسلامية اندرجت ضمن عادات مجتمعات المشرق.

أما الأكراد فجماعة إثنية خضعت لموجة تحفيز قومي، وتظهر عبر مطلب سياسي أكثر منه اجتماعي؛ عبر حركة سياسية كردية ارتهنت (أي الحركات السياسية وليس الكرد) في عمومها لخارج إقليمي ودولي، استغلت مظلومية الكرد إنسانيا لتحولها إلى قضية سياسية تحملها النخب وترسّخها لتوكيد الجماعة كهوية خاصة تختلف وتتمايز عن محيطها، وتحتاج دراستها لبحث كثير لا يستوعبه مقالنا، وينفرد التركمان بعدم محاولتهم التمايز سياسيا عن محيطهم العربي.

يتحدد المفهوم أكثر بفعل الثورة ضمن البنية- الجماعة- لتحقيق استجابة للمنجز الدولتي عبر انتصار الثورة، أي إمكانات انفتاح أبنائها ومدى قدرتهم على الثورة ضد قوى العطالة التي تستغل العصبية ضمنها.

أما الطوائف فنجد لدى الإسماعيليين تصورا يشابه التصور المسيحي بطمأنينتهم، مع استنادهم إلى هوية عروبية أولا، وحملهم شعورا جمعيا بأنهم جزء من كتلة بشرية؛ لها ثقافتها العامة التي لا تنفي خصوصيات مجتمعاتها المحلية، ولعل العامل الأهم هو انتشارها في بضع أمم وقارات، فما عادت الطائفة تظهر كتعبير سياسي، ولا تضمر حوامل فعل سياسي خاص بها بل تنفتح على الدولة. ورغم اختلافها مذهبيا عن الأكثرية السنية وعدم اشتراك كتلتها الاعتبارية في الثورة؛ لكنها أظهرت دورا مميزا في حماية فصائل الأمن العام المنتشرة في مناطقها، عندما حاولت فلول الأسد اقتحامها؛ فصمد أبناؤها وحموا قوات الأمن العام، ورفضوا تسليم أحد، وقد كتبت صحف غربية في تقرير مفصل كيف لعب الإسماعيليون دورا وسيطا بين قوى الدولة السورية الحديثة وبين بعض الجماعات العلوية المتشنجة في محيطها.

ثمة مفاهيم لا بد من تمييزها وتظهيرها وهي الثورة، والتمرد، والانخراط في الثورة حيث يمكن للطائفة أن تثور وللقبيلة كذلك بما يشبه التمرد ضد ظروف معينة لاكتساب حق أو إحداث تغيير، أو تقوم الجماعة بعمل عنفي ضد جماعة أخرى كحرب طائفة على طائفة أو قبيلة على قبيلة، وهو عمل داخلي أو مناطقي لا يستهدف الدولة عموما، وبين ثورة وطنية وهذه غالبا لاتبدؤها الطائفة ولكنها قد تنخرط فيها ما يفتح الباب على كثير من الأسئلة حول الأقلية والأكثرية، وقيمة كل منهما في الفعل الاجتماعي والسياسي.

وللذهاب أبعد من أحداث الثورة السورية؛ لا بد من التقديم بأن الثورة في هذا المقال، تعني أي حدث يؤدي إلى تغيير مصيري مقرون بمفاهيم وطنية لمصلحة البلد الذي تتشاركه هذي الجماعة مع جماعات أخرى والبيئة الأوسع اجتماعيا وسياسيا، أي الفعل الوازن والفاعل في مجتمع البنية ومحيطها الدولتي، وبغية البحث عن نقاط تمايز فارقة قد تتحدد أكثر؛ وهي الانضمام لمحيط ثائر مثلا كما في الثورة السورية، ويتحدد المفهوم أكثر بفعل الثورة ضمن البنية- الجماعة- لتحقيق استجابة للمنجز الدولتي عبر انتصار الثورة، أي إمكانات انفتاح أبنائها ومدى قدرتهم على الثورة ضد قوى العطالة التي تستغل العصبية ضمنها.

كان مثقف الطائفة مخلصا للثورة مثل ثائر القبيلة.

نجد لدى جميع البنى السالف ذكرها؛ أن استجابة الكتلة الاعتبارية للثورة تنطلق وفقا لرائز، أو دافع هو مصلحة الجماعة من القبيلة حتى الطائفة. وهنا لا بد من مقارنة بين القبيلة كبنية تمثل نموذجا مفاهيميا في أكثر حالاتها تشخيصا من تماسك وتجييش وأطر تحشيد؛ مثل محافظة الحسكة بقبائلها التي والت النظام وتبرأت من ثوارها، وبين الطائفة. وعند عقد هذه المقارنة عن قرب وبتشخيص واضح للدوافع لدى ثوار القبيلة الذين قد لا يكونون مثقفين ولا متعلمين تعليما جيدا، نجد أن ابن القبيلة في الجزيرة ثار رغم ضآلة نسبتهم من كتلة القبيلة الكلية، ورغم تعاون القبائل بعموم ضد أي ثائر ولو كان من خارج القبيلة، لدرجة أن الإخبار عنه أو قتله لا يولد ثأرا قبليا، نجد أن ثائر القبيلة ثار بعيدا عن حسابات المصلحة، وبصورة أدق حرق مراكبه كلها، في حين أن ابن الطائفة وغالبهم مثقفون دخلوا الثورة أيضا؛ ولكنهم عجزوا رغم ثقلهم وتأثيرهم في محيطهم مقارنة بتأثير وثقل ثائر القبيلة.

كان مثقف الطائفة مخلصا للثورة مثل ثائر القبيلة، ونتحدث في مقالنا هذا عن هذه العينة لا المتسلقين ولا المواربين ضمن الطائفة، لنجد أن مثقف الطائفة قد حوصر ليصبح ليس بأفضل حالا من ثائر القبيلة، لكننا نجد أنه وبالرغم من انفتاح ثائر الطائفة ومثقفها على شبكة علاقات أوسع، وثقافة ومجال عمل سياسي؛ فقد عجز عن تفكيك تلك البنية الدينية للطائفة وثقل مرجعياتها التقليدية والتي تغولت على الدور الاجتماعي والديني وصارت فاعلا سياسيا يشتغل بالتحشيد والتجييش ويفرض رؤيته ويجيش لها رجالها، بعيدا عمن انخرط من مثقفين معارضين للنظام وعلمانيين عادوا إلى خانة الشيخ والمشيخة، وبدت الطائفة أكثر قوة وتأثيرا وذلك لعوامل عدة منها التحالف والمصلحة التي ترومها الطائفة في المستوى الدولتي، في حين أن القبيلة تنزع للوزن والسلطة المحلية المكانية وتريد السلامة والتنفع محليا، بينما فتحت الطائفة باب التحالف حتى خارج حدود الدولة؛ لتؤثر في الدولة نفسها ولتكسب حصة كجماعة، ما يحيل انطلاقا من هذه النقطة في قوة الطائفة على ضرورة تنطع مثقف الطائفة الذي ثار ضد النظام أن يقوم بمواجهة جديدة وهي مواجهة بيئته المحلية وجماعته وبدء ثورته التي يعلن فيها خروجه على ذهنية الطائفة والتمرد على مراكز ثقلها، ما دام لم يستطع أن يستثمر فيها وفي رمزيتها ليوصلها إلى نهج وطني فوق مستوى رؤى الجماعة ما دون الدولتية، والتي تريد فرض رغبتها في الدولة وجود ضرورة جديدة لدى ثائر الطائفة، وهي صعبة جدا ولكنها بكل حال من باب الإخلاص للثورة التي يؤمن بها؛ أن يواجه بلا تردد مثلما واجه ابن القبيلة قبيلته وعانى القتل والتشريد، لدرجة أن ثوار القبيلة في العينة التي وردت بمحافظة الحسكة يطالبون الإدارة الجديدة بأن تكون إدارتها بتوجه تمثيل ثوري، لا ديمرقراطي يشرك القبيلة بسوادها الموالي للنظام البائد والمتسلح بعصبة القبيلة، لكي تسود قيم الثورة على الذهنية والنفعية والتبعية العمياء للسلطة أيا كانت.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى