
تنتاب الحالة المتحرّكة في سورية منذ أشهر قليلة تجاذبات وتصادمات كثيرة تذهب، في بعض الأحيان، إلى ما هو دراماتيكي دموي غير مسبوق، ضمن عديد من أنساق المجتمع السوري، من تعدّيات وانتهاكات فاقعة لأرواح الناس، من دون الارتكان إلى أيّ مسارات في العقلانية السياسية، وهي التي لطالما حلم بها الشعب السوري على مدى حكم آل الأسد 54 عاماً، قبل أن يُكنَس وأدواته التشبيحية كلّها على أيدي السوريين المنتفضين والثائرين 14 عاماً.
ولعلّ الأوضاع في الجنوب السوري، وما جرى أخيراً من صدامات أودت بأرواح مئات من السوريين، لا تتحمّل مسؤوليتها حكومة دمشق وحدها، بل لعلّ المجموعات العسكرية التابعة للشيخ حكمت الهجري، وارتداداتها وعلاقاتها الإقليمية، ثمّ استدعاؤها الفاجر المحتلّ الإسرائيلي، ليكون شريكاً لها، وحامياً لتحرّكاتها، وهيمنتها على الجنوب السوري، وخصوصاً جبل العرب ومحافظة السويداء، ضدّ حكومة دمشق، وصولاً إلى إعلان “الحكم الذاتي” المرفوض شعبياً في السويداء… هو ما ساهم في تأجيج المسألة برمّتها، وأودى بها إلى مهاوٍ لا يريدها السوريون، لا في محافظة السويداء ولا خارجها، لأن انتماء جبل العرب (والسويداء) كان على الدوام وطنياً بامتياز، وكلّ منعرجات التاريخ تشهد بذلك.
لا حلّ في سورية بعد كلّ ما حصل وجرى إلا بالحوار الوطني الواسع، تحت راية مهمّة وضرورية، هي وحدة كلّ السوريين ديمغرافياً وسياسياً
لكنّ بعضهم أبى إلا أن يقوم بمواصلاته وتشبيكه النفعي البراغماتي مع الخارج، المتربّص بسورية والمنطقة العربية، فكانت إسرائيل الأكثر جاهزيةً واستعداداً على طول الخطّ، وعبر استراتيجياتها للمنطقة العربية، وسورية خصوصاً بعد فرار بشّار الأسد، لتلعب (كما دأبت مراتٍ) على الوتر الطائفي، ولتكون السويداء ورقةً مهمّةً كي تفاوض عليها السوريين، وهو ما لوحظ عبر اللقاء التفاوضي بين وزير الخارجية السوري ومسؤول إسرائيلي، واجتماعهما في باريس برعاية أميركية، وقبله كانت لقاءات تفاوضية أخرى في أذربيجان، وغير مكان آخر.
أمام هذا الواقع المتفجّر والتدخّل الدولي والإقليمي ضمن الحالة السورية وتفاعلاتها ومتغيراتها، كيف يمكن الخروج جدّياً من عنق الزجاجة؟ وبالتالي يمكن أن يمنع انقساماً في سورية، ويحدّ من قيام فيدراليات، أو ما يسمّيه بعضهم (اللامركزية السياسية) وليس (الإدارية)، وهي التي من الممكن أن تكون بوابة ولوج نحو الانقسام والتقسيم والتفتت للدولة السورية، أو ما يشبه ذلك، بينما تنتظر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الضفة الأخرى تهيئةً وتوطئةً نحو إنفاذ تلك الأحلام، في قيام كيانات انفصالية، واللعب على ذلك ضمن سياقات حالة الاستقواء بالخارج، التي يشتغل عليها بعضهم في الجنوب السوري أو في شمال شرقي سورية.
وفي أتون مسارات هذا الواقع المرّ والمنغّص في سورية، يتمظهر أمامنا، ولدى المتابع للشأن السوري والمشهد المتغيّر، المعطى التالي عقلانياً سياساً ووطنياً، أن لا حلّ في سورية بعد كلّ ما حصل وجرى إلا بالحوار الوطني الواسع، تحت راية مهمّة وضرورية، هي وحدة كلّ السوريين ديمغرافياً وسياسياً، لبناء الوطن الذي حلموا به، وعملوا من أجله عقوداً مضت، وإلا تذهب المآلات حتماً نحو مزيد من الانقسام والتشظّي، وهو ما تريده إسرائيل عيانياً، كي تكون سورية أكثر ضعفاً، ومن ثمّ تساهم في إراحة إسرائيل من القلق الإقليمي عقوداً طويلةً مقبلة، ويبقى ما يسمّى “الأمن القومي الإسرائيلي” الأهم والأجدر بالبقاء والاستدامة، ليس لدى الإسرائيليين فحسب، بل أيضاً لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة، مهما اختلفت الإدارات من جمهورية إلى ديمقراطية.
لا مناص من العمل الفاعل من الجميع للمضي في مسارات عدالة انتقالية سورية تقطع مع الماضي
في سورية اليوم وبعد كلّ المياه التي جرت تحت الجسر، وكلّ الأحداث الدراماتيكية الحاصلة في السويداء وجبل العرب، وقبلها في الساحل السوري، لا يمكن أن تمرّ الأمور بالحلّ الأمني أو العسكري فقط، الحلّ لا بدّ أن يكون عقلانياً سياسياً واعياً ومدركاً طبيعة المسائل الحساسة في تلافيف وأنساق الوضع السوري ومتغيّراته التي لا تتوقّف عن الحدوث، عبر سياسات جديدة وعاقلة، تقوم على نهج المشاركة، أي مشاركة الجميع من كلّ الطوائف والإثنيات والأيديولوجيات السورية المتعددة والمتنوعة، في كامل الجغرافيا السورية، نحو سورية واحدة موحّدة لا تقبل القسمة أبداً، وهو ما ليس له من بدّ، أي تحريك عجلة الحوار السوري الجَدّي، الذي يمكن أن ينتج سلماً أهلياً سورياً، ويساهم فعلياً في عملية المشاركة السياسية والاجتماعية والمؤسّساتية، وعلى هذا الأساس يمكن أن تسير الأمور نحو صياغة متمكّنة ورصينة للعقد الاجتماعي الوطني الجامع الذي لا يستثني أحداً من السوريين، ويطمح إليه كلّ السوريين (وما زالوا)، رغم كلّ المنغّصات والمعوقات، وهم يصرّون على أن لا يتنازلوا عنه، وهو بالضرورة سوف يؤسّس واقعياً لقيام دولة المواطنة في سورية، بعد عقود خمسة من القحط، وغيابها كلّياً وليس جزئياً، دولة المواطنة الحقّة التي يكون فيها السوريون جميعاً سواسية أمام القانون وتحت سقفه، ومن ثمّ بناء الدستور الوطني الجامع والدائم والمعبّر عن كلّ أطياف الشعب السوري، المنهمك سابقاً ولاحقاً في سياقات بناء دولته التي يحلم بها على طول المدى، دولة المؤسّسات، وليس المحسوبيات، دولة العلم والمعرفة والديمقراطية، وليس دولة التشبيح والقمع وكم الأفواه، وكَنس (وإزاحة) كلّ سياسات النظام الأسدي الاستبدادي الكيماوي إلى غير رجعة.
ضمن هذه المعطيات، وفي أتون تلك المتغيرات والدماء التي سالت (ويمكن أن تسيل) خارج إطار العقلانية السياسية، ذلك كلّه، ومن خلاله، لا مناص من العمل الفاعل من الجميع، حكومة ومجموعات وأحزاباً وقوى فاعلة، للمضي في محدّدات ومسارات عدالة انتقالية سورية تقطع مع الماضي، لكنّها لا تتجاوز حقوق الناس، وتجبر الضرر لديهم، وبالتالي، تعمل على إعادة الحقوق إلى أهلها، ومن ثمّ تعيد إنتاج الواقع السوري على أسس جديدة لا تقبل إلا بالمحاسبة لكلّ من ارتكب فعلاً يعاقب عليه القانون، أو تعدّى فيه على الناس الأبرياء، وقبل ذلك كلّه (معه وبعده) يكون الحوار الوطني السوري سيّد المرحلة وحاميها بين ألوان الطيف كلّها.
المصدر : العربي الجديد