الشطارة في استنساخ القذارة

حسن النيفي

تزامناً مع الساعات الأولى لسقوط نظام الإبادة الأسدي، وتوجّه الزحوف البشرية من المواطنين نحو السجون والفروع الأمنية بحثاً عن المعتقلين والمغيّبين، كانت فظائع سجن صيدنايا هي الأسبق في الظهور، وأصبحت وسائل التعذيب التي بقيت معالمها في الزنازين وردهات بناء السجن محطّ ذهول كثيرين، وبدا على كثير من السوريين وغيرهم كأنهم يتعرّفون على فظائع هذا السجن للمرة الأولى، بعدما شاهدوا بأعينهم أدوات الجريمة ومخادع المعتقلين التي ما تزال تحتفظ بأنين الضحايا ونزيف قروحهم، وما لم يتمكّنوا من مشاهدة معالمه – وهو كثير بالطبع – فقد سمعوا عنه كثيرا من خلال مرويات المعتقلين والمعتقلات ممّن قضوا سنوات في السجن، فضلاً عمّا وثّقته جهات حقوقية عديدة من ممارسات لاإنسانية بحق السجناء، أضف إلى ذلك ما تضمنته كتابات مختلفة، سواء تلك التي تندرج في باب “أدب السجون”، أو ما تداولته الصحافة بأنواعها المختلفة.

أذكر في صيف عام 1997 – إذ كانت من السنوات القاسية من حيث ارتفاع منسوب التعذيب – أن أحد عناصر الشرطة العسكرية، في أثناء حملة التنفّس، أمر أحد السجناء بتقليد صوت النملة، وكلّما أخفق السجين في ذلك – وهو سيخفق حتماً – ينهال عليه السجّان بسوطه المطاطي (كابل) على ظهره.

ولكن على الرغم من ذلك، يبقى شطر كبير من أصناف التعذيب وأشكاله وفنونه بعيداً عن مساحة التأثير في نفوس الناس وأذهانهم، ليس لأنه لم يُذكر في سرديات السجناء، أو لأنه غاب عن سجلّات الموثِّقين والعاملين في المجال الحقوقي والإنساني، بل لأن هذا الضرب من التعذيب لا يمكن للغة أن تكون وسيلة كافية لبيان فحواه الحقيقي، وأعني بذلك مجمل أشكال التعذيب النفسي، وما يتضمّنه من تنوّع مذهل في أساليب الإهانة والإذلال، التي – من دون أدنى ريب – لم يكن يمارسها الجلادون اعتباطاً، أو أنها كانت وليدة مزاج السجّان أو من ابتكاره الذاتي، بل ما هو مؤكّد أن تلك الأنماط من التعذيب انبثقت عن دراسات وتجارب معمّقة، وصيغت ضمن برامج يقوم بتنفيذها أشخاص ذوو خبرة، بطريقة ممنهجة، وفقاً لأوامر إدارة السجن.

ولعلّ أهم معالم الوجع في التعذيب النفسي أن إحساس الضحية بالألم يبقى، بكل الأحوال، أقوى بكثير من قدرتها على التعبير عنه، إذ إن الشعور بالإهانة، وإنْ كان من الممكن تحويله إلى لغة أو رسائل خطاب، إلّا أنه يبقى تعبيراً ناقصاً، مفارقاً للإحساس البكر بالقهر أو الفاجعة النفسية.

لقد كان سجن تدمر العسكري، منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، الأكاديمية الأبرز التي نُفّذت فيها مجمل خطط التعذيب النفسي وفنونه، بصرامة منهجية فائقة، إذ إن إيقاع الأذى على أجساد السجناء فحسب لا يُعدُّ عاملَ اطمئنانٍ كافياً لدى النظام الحاكم بأن الخصم قد انكسر من الداخل، فيكون الاعتداء على المساحة غير المرئية من ذات الضحية تجسيداً لرغبة إلحاق الهزيمة بها، عبر الإمعان في إذلالها لتحطيمها أو الإجهاز عليها.

فمن ذلك، مثلاً، أن يُجبر الجلّاد أحد السجناء على لطم سجين آخر (زميل له) على وجهه بقوة، ثم يُجبر الآخر على لطم الأول، أو يُجبر أحدهما على ركوب ظهر الثاني ويأمره بإصدار صوت كنهيق الحمار، وثمّة ما هو أكثر إذلالاً، إذ يوجّه الجلاد للسجين شتيمة في غاية الشناعة، ويُجبر السجين على تكرارها، (ولَهْ قُلْ: أنا ابنُ عاهرة – أختي كذا…)، ولعلّ اللافت أن هؤلاء الجلّادين لديهم قاموس هائل من الشتائم المقذعة، تجعل المرء يتساءل: من أين حصلوا عليها؟ وانتقَوا منها ما هو أكثر انحطاطاً وشناعةً.

أمّا عن إجبار السجناء على تقليد أصوات الحيوانات، فتلك فسحةٌ للسجّان، أو مساحة للراحة والتسلية يلجأ إليها حين يريد التسريح عن نفسه، إذ بات من المعتاد أن يُجبر الجلّاد السجين على العواء أو النهيق أو المواء، وربما يغدو الأمر – عند هذا الحد – أقلّ خطراً، بالنسبة إلى السجناء، قياساً بتقليد أصوات حيوانات أخرى.

أذكر في صيف عام 1997 – إذ كانت من السنوات القاسية من حيث ارتفاع منسوب التعذيب – أن أحد عناصر الشرطة العسكرية، أثناء حملة التنفّس، أمر أحد السجناء بتقليد صوت النملة، وكلّما أخفق السجين في ذلك – وهو سيخفق حتماً – ينهال عليه السجّان بسوطه المطاطي (كابل) على ظهره، في مشهد قد يبدو ساخراً، لكنّه في حينه كان مؤلماً أشدّ الألم.

الأسد سقط، ولكن بقيت “الأسدية”، وما يجري بالفعل هو استنساخ فعلي لجميع قذاراتها.

ولئن كانت هذه الأنماط من الإذلال البشري أقلّ حضوراً وتأثيراً في الذاكرة السورية من سرديات التعذيب الجسدي، باعتبارها الأقدر على الاحتفاظ بتداعياتها الحسّية المرئية في غالب الأحيان، إلّا أن إعادة استنساخها والعودة إلى ممارستها من جديد تعزّز القناعة بقدرة الإرث الأسدي على التغلغل في الوعي العام، بما في ذلك من كان يدّعي أنه النقيض له.

ففي القتال الذي شهدته بعض المناطق السورية، منذ السادس من آذار، في مدن وأرياف الساحل السوري، ثم في الثالث عشر من تموز وما تلاه في مدينة وريف السويداء، ومن خلال ما تعجّ به وسائل التواصل الاجتماعي من مقاطع فيديو وصور، بات من المألوف أن ترى مشهداً يُمسك فيه أحد الخصوم المتقاتلين بخصمه الآخر، ويُمعن في إذلاله – بعد أن أنهكه جسدياً – طالباً منه تقليد صوت الكلب (عوِّ ولاه)، أو يجعله يحبو على يديه وقدميه معتلياً ظهره، في مشهد طالما ذكّرني بتساؤلٍ بيني وبين نفسي في سنوات الاعتقال: ما السرّ في النشوة التي يبلغها السجّان حين يُمعن في تعذيب وإذلال ضحيته، طالما أنها مشلولة القدرة، ولا تجسّد ندّاً حقيقياً في القدرة على المقاومة أو أيّ شكل من أشكال الدفاع عن النفس؟

وهل الاستقواء على من هو في حكم (الميت) مظهر من مظاهر الرجولة؟ أم هي رسالة إلى الخصم الذي لم يقع في الأسر بعد، من شأنها أن تعزّز المهابة وقوّة الشوكة وتوقِع الرعب لدى الطرف الآخر؟ وهي في كلتا الحالتين لا تغادر بواعثها التي لا تنتمي سوى إلى الخسّة والانحطاط.

ستبقى ذاكرة السوريين تحتفظ بإحساس عارم بالنشوة طوال ثلاثة أشهر أعقبت سقوط نظام الأسد، كانت النفوس فيها مشرئبة بالفرح والأمل، على الرغم من فداحة الخراب والدمار المادي الذي خلّفته سنوات الحرب، إذ كان مجرّد الشعور بطيّ مرحلةٍ شديدة البؤس، وشروع الناس بتحسّس معنى الكرامة والحرية، كافياً وحده لتتزوّد منه النفوس بما يجعلها أقدر على الصبر والمثابرة في مواجهة تحدّيات البناء والنهوض.

إلّا أن سعير الحرب الطائفية أطفأ جذوة الأمل، وبات يلطم أبصارنا ونفوسنا كل لحظة بصور ومشاهد وأخبار لا تنطوي إلّا على الفجائع والفظائع التي تعزّز القهر الذي لم يبرح الأرواح بعد، ولعلّ ما هو أشدّ إيلاماً أن جميع الأطراف المتقاتلة تدّعي أنها المُنتصِرة على نظام الأسد، إلّا أن اكتظاظ القنوات الإعلامية بمشاهد قتل المدنيين الأبرياء في بيوتهم، وكذلك رؤية قوافل الحافلات وهي تمتلىء بالنساء والأطفال والشيوخ الذين فرّوا بجلودهم طلباً للنجاة، إنما تؤكّد أن الأسد سقط، ولكن بقيت “الأسدية”، وما يجري بالفعل هو استنساخ فعلي لجميع قذاراتها.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى