
خرجت إيران من سوريا مدحورة بعد سقوط المجرم الهارب بشار الأسد، وانهار كل ما بنته من ميليشيات ومؤسسات مدنية وتعليمية واقتصادية، لقد شكلت لحظة الانتصار السوري في 8/كانون الأول 2024، لحظة فاصلة في تاريخ منطقة الشرق العربي، وكان يفترض بهذه اللحظة أن تؤسس لمسار جديد يشكل نقيضاً للمسار الذي حاولت إيران وأذرعها في المنطقة أن تبنيه، والذي أسميه عادة بمنظومة “الدول ذات الحدود السائلة”، ففيلق القدس الذي كان يتحرك من طهران إلى بيروت غير عابئ بحدود وطنية أو بسيادة دول، مثل نموذجاً لبروز دور الفواعل العسكرية غير الحكومية، وهذا ما أدى لدمار كامل في مفهوم الدولة الوطنية سواء في العراق أو سوريا أو لبنان.
وبالعودة للتاريخ بدأت هذه الفواعل تأخذ دوراً بارزاً في أعقاب يوم 22/شباط عام 2006 عندما دمر انفجار القبة الذهبية لمقام الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، وبغض النظر عن الطرف الذي نفذ هذا الهجوم، فقد أعقبه عمليات قتل وانتقام طائفية استهدفت مساجد ومناطق سنية، وانهارت بعدها كل محاولات المصالحة الوطنية، وبرزت الميليشيات الشيعية كقوة مسلحة شبه منظمة، وشهدت البلاد تشكيل فصائل مثل “جيش المهدي” و”عصائب أهل الحق”، التي نفذت عمليات تطهير عرقي واسعة النطاق، وتدخل فيلق القدس بقيادة قاسم سليماني، لتعزيز التنسيق بين هذه الجماعات وتسليحها، وتنظيم عملها.
ومع اجتياح تنظيم “داعش” للعراق عام 2014، أعلن المرجع الشيعي علي السيستاني فتوى “الجهاد الكفائي”، التي استندت إليها الحكومة لتشكيل “الحشد الشعبي”، وهو مظلة جمعت فصائل مسلحة متعددة، بعضها كان قد تأسس بعد تفجير سامراء، وتحوّل الحشد إلى قوة موازية للجيش، وارتبط بشكل وثيق بالحرس الثوري الإيراني الذي قدم له التدريب والدعم اللوجستي والاستخباري.
هذا السرد القصير ضروريٌ للوصول إلى فهم بعض تداعيات الحوادث التي تجري الآن في السويداء، فتحت عنوان محاربة ” الفصيل الخارج عن القانون”، والمدعوم من الهجري، تتم دعوات تحشيد وتجييش داخلي منقطعة النظير، وبغض النظر عن أسباب ما حدث في السويداء والأطراف المتورطة فيه، وأهدافها، إلا أن ما يهم الآن هو رصد سلوك السلطة وطريقة تعاملها مع هذه الحوادث، ولا سيما أننا نرى بوادر استنساخ للتجربة العراقية، ولا نقصد بالتجربة العراقية موضوع المحاصصة الطائفية، بل تحديداً اختطاف الدولة العراقية من قبل ميليشيات شيعية مسلحة تحت مسمى ” الحشد الشعبي”، وهيمنتها على جميع مجالات الحياة، ونشوء شبكات مصالح بين زعمائها، أدت إلى انهيار الاقتصاد العراقي، وتراجع مستويات الدخل نتيجة للنهب التي يقوم بها زعماء هذه الميليشيات إلى الحد الذي بات العراق الثري يتخبط في دوامة من الفوضى، ولإحكام سيطرة الميليشيات على الحكم، فإنها تغذي العداء الطائفي بين السنة والشيعة، حتى تحولت مناسبات عاشوراء لاستعراضات مليونية، تمارس فيها كل أنواع التحريض الطائفي.
للأسف ما نخشاه الآن في سوريا أننا ننزلق إلى هذه التجربة سواء عن قصد أو غير قصد، فالسلاح الخارج عن سلطة الدولة هو سلاح غير شرعي، سواء كان سلاحاً مدعوماً من حكمت الهجري كالمجلس العسكري في السويداء، أو سلاحاً مدعوماً من السلطة كسلاح العشائر، وهذا السلاح وانتشاره والترويج له والتهليل لحامليه – وهو بالمناسبة شبيه بالتحشيد الذي جرى في العراق – سيقود سوريا بلا شكل لتشكيل “حشد شعبي” سني على غرار الحشد الشعبي العراقي الشيعي، وهذا الحشد سيمنع عملياً من بناء الدولة السورية، كما منع من بناء الدولة العراقية.
للأسف فقد انتصر قاسم سليماني على السوريين جميعاً سنة ودروزاً، لأن نموذجه المناوئ لوجود الدولة، هو الذي ينتصر الآن في سوريا، في ظل تشجيع السلطة على وجود سلاح غير شرعي بأيدي المدنيين، ما دام هذا السلاح معها، ورفضها لسلاح غير شرعي ما دام هذا السلاح يقف ضدها.
إن قاسم سليماني الذي قتلته غارة أميركية عام 2020، والذي عمل جاهداً في سوريا لتأسيس ما يعرف بالقوات الرديفة، يتقلب الآن فرحاً في قبره، وهو يراقب دعوات النفير العام التي تطلقها العشائر العربية في سوريا للتوجه إلى السويداء، ويتقلب فرحاً وهو يرى الترويج الإعلامي الذي يخرج من مقربين من السلطة لهذا الحشد الشعبي الجديد، وللأسف فقد انتصر قاسم سليماني على السوريين جميعاً سنة ودروزاً، لأن نموذجه المناوئ لوجود الدولة، هو الذي ينتصر الآن في سوريا، في ظل تشجيع السلطة على وجود سلاح غير شرعي بأيدي المدنيين، ما دام هذا السلاح معها، ورفضها لسلاح غير شرعي ما دام هذا السلاح يقف ضدها، وهنا نقع في تناقض بين الدولة والسلطة، لأن منطق الدولة لا يقبل بأي سلاح سواء كان يؤيد السلطة أو يعارضها، ولذلك على السلطة أن تبدأ بنزع كل سلاح خارج عن الدولة، وليس الاكتفاء بنزع السلاح المناوئ لها، وتشجيع السلاح الموالي لها، فأساسيات تعريف الدولة، هو أن تحتكر هي وحدها للقوة العسكرية، من دون أي شريك آخر، أيا كان توصيفه وأيا كان سبب وجود السلاح بيده، ومهمة الدولة حماية كل مواطنيها، وليس دفع جزء منهم للتسلح لتحقيق الأمن الذاتي، وترْك البلاد مفتوحة لحالة من الاحتراب الأهلي، فشل في تنفيذها نظام المجرم الهارب عبر أربعة عشر عاماً من عمر الثورة، رغم هول المجازر والمذابح التي ارتكبها.
إن مهمة قمع التمرد العسكري الذي بدأه الهجري، برفضه للتغيير الذي حدث في سوريا، تقع على عاتق السلطة وليس على عاتق المواطنين، سواء كانوا من العشائر أو من سواها، وإن كانت السلطة عاجزة في هذه المرحلة عن النهوض بهذه المهمة، فلا يجوز لها تحريض (أو السماح بتحريض) جزء من السكان ضد جزء آخر منهم، أو على أقل تقدير لا يجوز لها الصمت إزاء دعوات النفير العام، التي تملأ ساحات المدن السورية ومآذن المساجد، ووصلت إلى الجامعات، إن التصدي لظاهرة النفير العام، ضروري في هذه المرحلة، وعلى السلطة أن تتخذ موقفاً واضحاً منها، وأن ترفضها بشكل لا لبس فيه، وذلك لنتمكن كسوريين من إعادة بناء دولتنا ووطننا على أسس حديثة بعيدا عن الغرائز العصبية والتحشيد الطائفي.
المصدر: تلفزيون سوريا