إسرائيل… العدو النفسي وتحدّيات التطبيع

مها حسن

هل يمكننا تخيّل هذه الصورة: سورية توقّع اتفاق سلام مع إسرائيل؟ مشهد كهذا، لو تحقق، لن يكون مجرّد محطة سياسية عابرة، بل زلزالاً في الوعي الجمعي السوري والعربي. ليست إسرائيل، في المخيّلة العربية، مجرّد دولة أو خصم تقليدي، إنها “العدو” بما تحمله الكلمة من ثقل تاريخي ونفسي وثقافي. فكرة السّلام معها لا تثير الانقسام السياسي فحسب، بل تفتح جروحاً قديمة في ذاكرة كل فرد تشكّلت هويّته على وقع صراع طويل ودموي.

لقد نشأ أبناء المنطقة العربية على قصص الأبطال الذين دافعوا عن الأرض، وعلى حكايات الخونة الذين باعوا دمهم ولغتهم وهويتهم. من منّا لم يسمع أو يردّد قصص الطيار السوري بسام العدل الذي فرّ بطائرته إلى إسرائيل عام 1989؟ لم تكن مجرّد قصة سياسية، بل سردية تحمل عبء الخيانة والعار، ذلك العار الذي تسرّب إلى تفاصيل الحياة اليومية، إلى الأحاديث العابرة، وإلى التربية داخل البيوت والمدارس.

لقد دُرّست القضية الفلسطينية في المناهج المدرسية والجامعية، وكان أدب القضية أحد عوامل تشكيل اللاشعور الجمعي المتضامن مع فلسطين، الرافض لإسرائيل. واليوم، ومع دخول المنطقة في مرحلة تحوّلات سياسية غير مسبوقة، يجد السوريون أنفسهم أمام سؤال صادم: هل يمكن، بل هل ينبغي، صنع سلام مع إسرائيل؟

ثمّة من يرى في هذا الخيار مخرجاً من نفق الحرب الطويل، وربما بداية لخلاص فردي وجماعي من نظام الاستبداد والانهيار. وهناك من يتعامل مع الفكرة من زاوية براغماتية باردة: إذا كان حافظ الأسد نفسه قد دخل مفاوضاتٍ مباشرة مع الإسرائيليين في مؤتمر مدريد عام 1991، ولم يعارض لاحقاً مسار أوسلو علناً، ما الذي يمنع تكرار تلك التجربة اليوم تحت مسمّيات جديدة؟

الصراع هنا ليس صراعَ دول فحسب، بل هو صراع هوية وذاكرة

لكن الواقع أعمق وأعقد من حسابات السياسة وحدها، فالتطبيع ليس توقيع ورقة، بل هو عملية نفسية وثقافية طويلة، كما قال الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي “الأزمة تكمن في أنّ القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد”. نحن هنا في مساحة الفراغ هذه بين موت السرديات القديمة وعجزنا عن صياغة بدائل جديدة.

كيف يمكن لوعي تشكّل عقوداً على فكرة العدو، أن يتحول بين عشية وضحاها إلى وعي يقبل بالسّلام؟ الصراع هنا ليس صراعَ دول فحسب، بل هو صراع هوية وذاكرة. كيف نعيد تعريف مفاهيم “العدو” و”الخيانة” و”الكرامة”؟ كيف يمكن لنا أن ننظر في مرآة أنفسنا من دون أن نخاف من ماضينا؟، … فالتطبيع الحقيقي لن يتحقق بتوقيع سياسي، بل بمصالحة مع الذات أولاً، بمراجعة صريحة وشجاعة للروايات التي حملناها منذ الطفولة.

لنأخذ مثالاً: مصر، أول دولة عربية وقّعت معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979، وشهدت رغم مرور عقود على الاتفاق استمرار مشاعر الرفض الشعبي. الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم وصف اتفاقية كامب ديفيد بأنها “هزيمة بلا دماء”. اليوم، ورغم مرور أكثر من 40 عاماً، ما زالت قطاعاتٌ واسعةٌ في مصر والأردن تعيش هذا التوتر بين السّلام الرسمي والعداء الشعبي.

وفي السياق نفسه، لا يمكن تجاهل موقف الشاعر الفلسطيني محمود درويش من اتفاق أوسلو، الذي اعتبره “سلام الأقوياء” لا سلام الشعوب، قال درويش: “لقد وضعونا في قفص، ثم طلبوا منا أن نغنّي للحياة”. كان يرى أن “أوسلو” لم يكن نهاية للصراع، بل بداية فصل جديد من التنازلات والمآزق المقنّعة. لا ينطبق رأيه هذا على القضية الفلسطينية فحسب، بل يقدّم عدسة ونافذة لفهم مأزق كل محاولة سلام لا تقوم على أسس العدالة والكرامة الحقيقية. ويلقي هذا البُعد الرمزي الذي طرحه درويش بظلاله اليوم على أيّ تفكير في التطبيع بين سورية وإسرائيل: هل سيكون مجرّد قفص جديد يُطلب فيه من الضحية أن تغنّي؟

ليس السّلام قراراً يُفرض من الأعلى، بل عملية تتطلب وقتاً طويلاً وجهداً شاقّاً

ثمّة جروح نفسية عميقة لا تزال تنزف. لا يعني التطبيع مع إسرائيل، كما أثبتت هذه التجارب، فقط نهاية حرب، بل بداية حرب أخرى داخلية: حرب مع الخوف، مع الكراهية المتجذّرة، مع الشعور بالخذلان، ومع أسئلة الخيانة والانتماء.

هل يستطيع السوريون، أو أيّ شعب عربي، أن يتجاوز هذا الانفصام من دون عملية شفاء جماعية؟ هل يمكن أن نعيد بناء الثقة ليس بين دولتين فحسب بل داخل المجتمع نفسه؟ وهل نملك شجاعة الاعتراف بأن سرديات كثيرة لـ”العدو” قد استُخدمت سياسيّاً لقمع الداخل وتبرير الاستبداد أكثر مما خدمت قضايا الحرية والكرامة؟

لا يكفي القول إنّ السّلام هو الخيار الأفضل أو الأقل كلفة. كما كتب إدوارد سعيد: السّلام الحقيقي لا يولد من استسلام الضحية، بل من اعتراف متبادل بالكرامة والحقوق. … ليس السّلام قراراً يُفرض من الأعلى، بل عملية تتطلب وقتاً طويلاً وجهداً شاقّاً في تفكيك الحكايات القديمة وإعادة صياغة الحاضر والمستقبل. إنها رحلة نحو التصالح مع الذات، نحو بناء سردية جديدة تعترف بالماضي من دون أن تظلّ أسيرته.

في نهاية المطاف، يبقى السؤال الأصعب: هل يمكن أن يتحقّق السّلام مع “الآخر” من دون أن يتحقق أولاً سلام داخلي مع أنفسنا؟… هذا هو التحدي الحقيقي، وهذا هو جوهر القضية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى