المؤشِّر العربي 2025.. السوريون بين أمل المستقبل وضغط المعيشة

حمدان العكله

أعلن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عن نتائج المؤشِّر العربي 2025، الذي يُعدُّ من أوسع وأشمل استطلاعات الرأي في المنطقة العربية، إذ يغطي هذا الاستطلاع قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية تعكس اتجاهات الرأي العام العربي، وتكتسب النسخة الخاصة بسوريا هذا العام أهمية استثنائية، إذ جاءت في مرحلة انتقالية فارقة بعد سقوط النظام السابق، وجرى تنفيذها على عينة كبيرة شملت مختلف المحافظات السورية، ما يمنح نتائجها قدراً عالياً من الموثوقية والتمثيل.

وما يميز هذه النسخة أنَّها تكشف عن مفارقة لافتة في المزاج العام للسوريين فمن جهة، برزت مؤشرات واضحة على تفاؤل نسبي وحذر تجاه المستقبل يعكس تطلعات واسعة نحو الاستقرار وبناء دولة جديدة؛ ومن جهة أخرى، أظهرت النتائج أنَّ الأزمات الاقتصادية والمعيشية الثقيلة لا تزال تلقي بظلالها على حياة الناس اليومية، وتشكِّل التحدي الأكبر أمام أيِّ عملية سياسية أو اجتماعية قادمة.

ملامح التفاؤل السوري

تشير نتائج المؤشِّر العربي إلى أنَّ المزاج العام في سوريا يتجه تدريجياً نحو رؤية أكثر إيجابية للمستقبل، إذ أبدى أكثر من نصف المشاركين اعتقادهم بأنَّ البلاد تسير اليوم في الاتجاه الصحيح، هذا التحوُّل في النظرة لم يأتِ من فراغ، بل استند إلى جملة من التطورات التي عدَّها المستطلعون مؤشرات على بداية مرحلة جديدة، فقد أشار كثيرون إلى تحسُّن نسبي في الأوضاع الأمنية مقارنة بالسنوات الماضية، إضافة إلى الإفراج عن معتقلين شكَّلت قضيتهم جرحاً عميقاً في الذاكرة السورية. كما برزت الإشارة المتكررة إلى تراجع القبضة الاستبدادية التي سيطرت على المجتمع لعقود طويلة، ما أتاح مساحات أوسع للشعور بالحرية والانفتاح على المستقبل.

ويكشف هذا التفاؤل، على تواضعه، عن رغبة واضحة لدى السوريين في طيِّ صفحة الماضي وبدء مرحلة قائمة على الاستقرار والكرامة والأمل، إلا أنَّ هذا المزاج الإيجابي لا يلغي حقيقة أنَّ التحديات ماتزال ثقيلة، وأنَّ الطريق نحو بناء دولة مستقرة وديمقراطية لا يخلو من العقبات التي تتطلَّب معالجة جادَّة وتوافقاً وطنياً واسعاً.

إنَّ مجمل هذه الأوضاع يؤكِّد أنَّ الأزمة الاقتصادية والمعيشية تمثل التحدي الأكبر أمام السوريين اليوم، وأنَّها العامل الأكثر تأثيراً في صياغة مواقفهم تجاه المستقبل.

التحدِّيات الاقتصادية والمعيشية

وراء ملامح التفاؤل التي رصدها المؤشِّر، يبرز واقع معيشي قاسٍ لا يمكن تجاهله فقد أظهرت النتائج أنَّ ما يقارب نصف الأسر السورية تعيش في حالة عوز مزمن أو بالكاد تتمكَّن من تلبية احتياجاتها الأساسية، في حين أنَّ نسبة مَنْ يتمتعون بقدر من الوفرة الاقتصادية لا تتجاوز 10% فقط، هذا التفاوت يعكس هشاشة الوضع الاقتصادي، ويكشف عن عمق الأزمات التي راكمتها سنوات الحرب والانهيار المؤسسي والفساد.

وتشير النتائج كذلك إلى أنَّ شريحة واسعة من الأسر تعتمد بشكل شبه كليٍّ على التحويلات المالية من الخارج، سواء من أقارب في دول الجوار أو من جاليات سورية في أوروبا وأميركا، هذا الاعتماد يوضِّح مدى عجز الاقتصاد المحلي عن توفير مصادر دخل مستقرة، ويجعل حياة ملايين السوريين رهينة بتقلبات الظروف الخارجية. أمَّا على المستوى الغذائي، فقد بينت البيانات أنَّ معظم العائلات لا تستطيع الحصول على وجبات متوازنة بشكل منتظم، وأنَّ تناول اللحوم بات حدثاً نادراً يقتصر غالباً على المناسبات، وهو مؤشِّر مباشر على تراجع القدرة الشرائية وغياب الأمن الغذائي.

إنَّ مجمل هذه الأوضاع يؤكِّد أنَّ الأزمة الاقتصادية والمعيشية تمثل التحدي الأكبر أمام السوريين اليوم، وأنَّها العامل الأكثر تأثيراً في صياغة مواقفهم تجاه المستقبل، فالفقر والبطالة وغلاء الأسعار عوامل تضع قيوداً ثقيلة على أيِّ عملية سياسية أو إصلاحية، وتقوِّض إمكانية استثمار المكاسب الأمنية أو السياسية التي تحقَّقت خلال الفترة الماضية.

الثقة بالمؤسسات والحياة السياسية

على الصعيد السياسي، أظهرت نتائج المؤشِّر العربي أنَّ السوريين يتبنون موقفاً يتراوح بين الحذر والقبول تجاه مؤسسات الدولة القائمة، فقد عبَّر أكثر من نصف المستطلعين عن ثقتهم بالحكومة والأجهزة الأمنية، وهو مؤشِّر على رغبة قطَّاع واسع في ترسيخ قدر من الاستقرار المؤسساتي بعد سنوات من الفوضى والعنف، لكنَّ هذه الثقة تبقى متوسطة ومشروطة، إذا لم تترافق مع رضا مطلق، ورافقها إدراك واسع لمخاطر الفساد واستمراره في بنية الدولة، وإن بدرجات أقل مقارنة بما كان عليه في عهد النظام السابق.

في الوقت ذاته، يبرز جانب آخر أكثر وضوحاً في المزاج السوري الجديد، وهو التأييد القوي للتحوُّل الديمقراطي، فقد اعتبر غالبية المشاركين أنَّ النظام الديمقراطي، على الرغم ممَّا قد يحمله من أزمات أو صعوبات، هو الخيار الأنسب لسوريا اليوم. هذا الميل يعكس إدراكاً عميقاً لأهمية الديمقراطية كضمانة لتجنُّب عودة الاستبداد، وكإطار يسمح بالمشاركة الشعبية والرقابة على أداء السلطات.

ومن اللافت أنَّ نسبة جيدة من السوريين أعربت عن استعدادها لتقبُّل تداول السلطة سلمياً عبر انتخابات حرة ونزيهة، وهو ما يعكس تحوُّلاً جوهرياً في الثقافة السياسية بعد عقود من حكم الفرد الواحد. إنَّ هذا التوجُّه الشعبي يقوم على رفض الماضي، ويؤكِّد تطلعاته إلى بناء حياة سياسية جديدة تقوم على التعددية، والمساءلة، وسيادة القانون، ما يفتح المجال أمام إعادة تشكيل الدولة السورية على أسس أكثر عدالة وشفافية.

يبقى السؤال المفتوح هل تستطيع النخب السورية اليوم أن تلتقط هذه الفرصة، وهل تستطيع أن توازن بين استحقاقات السياسة وضغط الحياة اليومية، أم أنَّ الأزمات الاقتصادية ستظلُّ تثقل الحلم وتؤجِّله إلى أجل غير معلوم؟

ختاماً

تُشير نتائج المؤشِّر العربي 2025 إلى تفاؤل نسبي لدى السوريين بإمكانية بناء دولة ديمقراطية مدنية، غير أنَّ هذا المسار يظلُّ مقيَّداً بتحديات اقتصادية واجتماعية عميقة تتطلَّب معالجة عاجلة لضمان ترجمة التطلعات السياسية إلى واقع ملموس.

بهذا المعنى، يقدِّم المؤشِّر العربي قراءة للرأي العام السوري، كما يمكن أن يكون بوصلة لصنَّاع القرار والقوى السياسية والمدنية فالمستقبل الذي يتطلَّع إليه السوريون لن يُبنى على التفاؤل وحده، بل على القدرة على تحويل هذا الأمل إلى سياسات واقعية تضمن الأمن المعيشي والعدالة الاجتماعية إلى جانب الإصلاح السياسي، ويبقى السؤال المفتوح هل تستطيع النخب السورية اليوم أن تلتقط هذه الفرصة، وهل تستطيع أن توازن بين استحقاقات السياسة وضغط الحياة اليومية، أم أنَّ الأزمات الاقتصادية ستظلُّ تثقل الحلم وتؤجِّله إلى أجل غير معلوم؟

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى