حوار استراتيجي أمريكي-عراقي: مسألة مصالح وتوقعات

كارل كالتنثالر ومنقذ داغر وأنتوني كوردسمان

دعا وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في السابع من نيسان/أبريل 2020 إلى “حوار استراتيجي” بين الولايات المتحدة والعراق للبحث في مستقبل العلاقة بين البلدين. ويرمي الحوار، الذي سيكون عبارة عن سلسلة من الاجتماعات بين كبار المسؤولين الأمريكيين والعراقيين، إلى وضع كافة جوانب العلاقة الأمريكية-العراقية على طاولة الحوار.

وبغية فهم ما قد يسفر عنه الحوار الاستراتيجي، من الضروري إدراك ما هي مصالح كل من الولايات المتحدة والعراق-وكذلك إيران والأطراف الأخرى المهتمة- حيث يتطلع العراق والولايات المتحدة إلى إعادة هيكلة علاقتهما.

كما من الضروري تتجاوز الولايات المتحدة تركيزها السابق على تنظيم “داعش”، والتحدي الذي تطرحه إيران في الوقت الراهن، والذي ميز العلاقة الأمريكية العراقية على مدى السنوات القليلة الماضية. كما يجب على الطرفين أيضا الاستفادة من فرصة الحوار الجاد والنظر بدلًا من ذلك في كيفية قيام الولايات المتحدة والعراق برسم معالم علاقة استراتيجية مستدامة– علاقة تخدم مصالحهما الاستراتيجية وتساعد على إحلال السلام والاستقرار في المنطقة.

المصالح الأمريكية في العراق

قبل تناول ما قد تطلبه الولايات المتحدة من العراق في الحوار الاستراتيجي، من المهم البحث في سبب أهمية العراق بالنسبة لأمريكا، حيث يرى البعض ضرورة أن تحدّ الولايات المتحدة ببساطة من خسائرها في العراق وتنسحب منه. والإجابة على هذا المقترح بسيطة: للعراق أهميةٌ استراتيجية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة من أجل ضمان الاستقرار في الخليج ومدّ الاقتصاد العالمي بالنفط والحدّ من خطر اندلاع حرب شعواء مع إيران.

ومن شأن الانسحاب الأمريكي من العراق أن يمكّن النظام الإيراني المتشدد والإرهاب والتطرف الإقليميين، من أن يلحقا ضررًا كبيرًا بالأمن القومي الأمريكي. وتمامًا كما أثبت الانسحاب الأمريكي من العراق في العام 2011 بأنه خطأ مكلف لا بل فادح، من شأن سحب الولايات المتحدة قواتها في المستقبل ودعمها للحكومة العراقية – وبخاصةٍ دعم قوات الأمن العراقية – أن يرتّب تداعيات كبيرة على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.

ويمكن تقسيم المصالح الاستراتيجية الأمريكية في العراق إلى أربع فئات رئيسية، هي: التهديدات التي تطرحها إيران؛ وتهديد تنظيم “داعش” أو جماعة مماثلة أخرى؛ والعراق المنقسم وتداعياته على المنطقة؛ والمنافسة بين القوى العظمى. ومن ثم، يتعين على الولايات المتحدة مواصلة التركيز على هذه المصالح الأربع وإلا سيصبح العراق مبعث قلق كبير بالنسبة لها في المستقبل.

هذا ويُعتبر العراق أساسيًا لاستراتيجية الولايات المتحدة المتمثلة في احتواء توسّع النظام الإيراني الحالي ونفوذه. وما من دولة في منطقة الخليج تكتسي في الوقت الراهن أهميةً أكبر من العراق بالنسبة للولايات المتحدة في سعيها إلى احتواء مخططات المرشد الأعلى والثوريين المتشددين و”الحرس الثوري الإسلامي”. وإذا ما تمكّنت الولايات المتحدة من مساعدة قادة العراق على بناء عراق مستقر وقوي، سيكون ذلك بمثابة إضافة مهمة لردع الطموحات الإيرانية والضغوط العسكرية التي تمارسها الجمهورية الإسلامية في منطقة الخليج.

ويواجه العراق حاليًا فترةً من الاختلال الوظيفي في الحكم والانقسامات الداخلية العميقة والمشاكل الاقتصادية الخطيرة. غير أنه يملك موارد نفطية هائلة إضافةً إلى شريحة سكانية متعلمة وكبيرة. وفي حال تمكّنت إيران من استغلال مشاكل العراق للسيطرة عليه، سيضاعف ذلك قوتها بشكل هائل. لكن أي مسعى إيراني هادف إلى تقسيم السياسة العراقية أو الهيمنة بشكل كامل سيواجه معارضة ملحوظة من العديد من العرب الشيعة والسنّة والعراقيين الأكراد. كما أنه سيؤجج التوتر الطائفي والإثني والإقليمي ومن المرجح إلى حدّ كبير أن يؤدي إلى حرب أهلية أخرى في العراق.

ومن شأن الصراع الأهلي المماثل أن يؤدي إلى مشاكل خطيرة في المنطقة ويشجع على الإرهاب والتطرف. كما أن وجود عراق غير مستقر سيعزز كذلك التطرف السني والشيعي في العراق وباقي دول المنطقة ككل، ويساعد على عودة تنظيم “داعش” ويمتد إلى ما وراء الحدود العراقية. علاوة على ذلك، قد يعتبر العرب السنّة “داعش” أهون الشرّين إذا ما اصطدموا بحكومة شيعية طائفية إلى حدّ كبير تضغط عليها إيران لاستبعادهم وحرمانهم من أي صوت سياسي في العراق. وهذا ما حصل عقب الانسحاب الأمريكي في 2011 وما من أسباب كثيرة تدعو إلى الاعتقاد بأن هذا المنحى لن يتكرر. إنه سيناريو يصعب على الولايات المتحدة تجاهله وسيتطلّب التزامًا عسكريًا أمريكيًا لاحتوائه.

يجب على الولايات المتحدة بالفعل إعادة تركيز مخاوفها على تنظيم “داعش” على المدى القصير أيضًا، حيث أن إصدار تصريح سياسي يفيد أنه تمّ تدمير التنظيم بعد أن فقد معاقله هو بمثابة تجاهل للوقائع على الأرض. فالتنظيم لا يزال موجودًا وناشطًا في العراق، وهو في الواقع يشارك في حملة عصابات ناشطة في المناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، وهي حملة تكثّفت في الآونة الأخيرة. وأصبح “داعش” الآن أقوى بكثير مما كان عليه تنظيم “القاعدة” في العراق حين غادرته القوات الأمريكية في العام 2011.

ولا يزال الجيش العراقي ضعيفًا نسبيًا بعد تلقيه ضربة ثلاثية لقدراته حين دفعت السياسة في العراق بالولايات المتحدة إلى الانسحاب عام 2011، وجرّد نوري المالكي القوات العراقية من الضباط الأكفاء واستبدلهم بأتباع سياسيين يستجيبون له. وقد سهّل ذلك عمليات فرار جماعية للجنود وتدمير الوحدات في الحرب ضد “داعش”.

ويُعتبر التدريب والدعم المقدّم من الولايات المتحدة إلى الجيش العراقي أساسيًا الآن لإبقاء قوات الأمن العراقية على مسار التجديد. فهي لا تزال أضعف من “قوات الحشد الشعبي” حيث تصطفّ العديد من الوحدات الشيعية مع إيران، والسماح للميليشيات الشيعية بالهيمنة على القطاع الأمني العراقي سيساعد “داعش” على استعادة قوته ولن يساعد على دحره.

أخيرًا، للولايات المتحدة مصلحة استراتيجية في العراق من أجل مواجهة مساعي روسيا والصين الرامية إلى بسط نفوذهما الاقتصادي والسياسي في البلاد. فالحكومتان الروسية والصينية تبذلان أساسًا جهودًا حثيثة من أجل تعزيز نفوذهما في العراق على حساب الولايات المتحدة. ويمكن أن تفشل الاستثمارات المالية الأمريكية في العراق في حال حلّت الشركات الصينية أو الروسية محلّ الأمريكية. كذلك، ستترتب عن صورة تخلّي الولايات المتحدة عن العراق لصالح الروس والصينيين تداعياتٌ تتخطى الحدود العراقية. وسيكون ذلك إشارة لدول أخرى في المنطقة على أن الولايات المتحدة هي صديق لا يمكن التعويل عليه.

والمحصلة في ما يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية في العراق هي أن لدى أمريكا مصلحة كبيرة وإلزامية بوجود عراق مستقر ومزدهر ومتوازن سياسيًا، خاصة بالنظر إلى سلبيات البديل. وإذا انسحبت الولايات المتحدة من العراق قبل تحقيق هذه الأهداف، ستكون مرغمة على التعامل مع كارثة عراقية قد تكبّد الولايات المتحدة أثمانًا أكثر بكثير مما هو ضروري.

في الوقت نفسه، يتطلب البقاء في العراق إدخال تغييرات كبيرة على السياسة والحكم والتنمية في العراق. ولا يمكن القول إنّ مشاكل العراق قد بدأت مع الغزو الأمريكي في 2003. فبعضها يعود إلى تاريخ قيام الدولة وبعضها الآخر إلى تطورها منذ سقوط الحكم الملكي، والعديد منها هي نتاج أعمال صدام حسين. كما أن مشاكل اليوم هي بمعظمها نتاج قادة العراق الحاليين. ويمكن للولايات المتحدة فقط أن تساعد عراقًا يساعد نفسه.

المصالح الإيرانية في العراق

تُعتبر إيران اللاعب الخارجي الأساسي في الحسابات الأمريكية إزاء العراق، الأمر الذي يجعل من المهم جدًا بالنسبة لإيران التأكد من أن العراق لا يشكل مرة أخرى تهديدا أمنيا لجاره الشرقي. ومن الجدير بالذكر أن إيران تسعى إلى استغلال العراق لتعزيز سلطة طهران الاستراتيجية في المنطقة والحفاظ على العراق وتنميته باعتباره سوقًا للسلع والخدمات الإيرانية. ولن تتخلى النخبة الأمنية الحالية في إيران، من إصلاحيين أو متشددين أو غيرهم، عن العراق طالما أنه ضعيف ومنقسم. فحكّام إيران يدركون أنهم لا يتمتعون بترف التفكير بذلك حتى كخيار أمامهم.

بعد حرب دامت سنوات في فترة الثمانينيات ضد صدام حسين، قررت إيران أن أفضل طريقة لتحييد التهديد الخطير على أمنها القومي لنظام إيران الحالي هو أن يمسك “أزلامهم” بزمام الأمور في بغداد. ويفترض قادة إيران أن القوى الخارجية، وبخاصةٍ الولايات المتحدة، ستسعى إلى إضعاف الكتل الشيعية الموالية لإيران في العراق. كذلك، ثمة الكثير من العراقيين، ولا سيما العرب السنّة والأكراد وحتى العرب الشيعة القوميين، الذين لا يرغبون في رؤية الأحزاب الموالية لإيران تهيمن على السياسة العراقية.

كما أن السيطرة على العراق تخدم غرضًا إقليميًا أوسع، يتمثل في إقامة جسر بري بين إيران ولبنان، ويُعتبر العراق جزءًا أساسيًا من تلك الاستراتيجية، وذلك في ظل سيطرتها الفعلية من قبل حزب الله. وبالتالي، فإن السيطرة على العراق يعتبر وسيلة لتوسيع نفوذ إيران في الشرق الأوسط، مع العمل على تأمين مواقعها ضد المنافسين الإقليميين المحتملين.

أخيرًا، يُعتبر العراق أساسيًا بالنسبة لإيران كونه سوقًا مهمًا للسلع والخدمات الإيرانية. وهذه هي الحال الآن أكثر من أي وقت مضى، حيث أن إيران تترنح تحت وطأة العقوبات المفروضة على اقتصادها. فالعراق هو سوقٌ للسلع الإيرانية غير المصرّفة، أي بعبارة أخرى، للسلع الإيرانية التي لا تجد أسواقًا أخرى. وقد جعل السياسيون الشيعة الموالون لإيران هذا الأمر ممكنًا بالنسبة للجمهورية الإسلامية، رغم الانعكاسات السلبية على منتجي العراق ومستهلكيه. فقد أسفرت الواردات الإيرانية إلى الأسواق العراقية عن بطالة وتضخم في العراق وأغضبت بشكل عميق الشارع العراقي.

المصالح العراقية في مستقبل البلاد

إنّ المسألة الأصعب في تنظيم حوار استراتيجي مجدٍ بين الولايات المتحدة والعراق وإقامة علاقة استراتيجية دائمة بينهما، هي ما يرغب به العراقيون لبلدهم. فالعراق الآن دولة منقسمة إلى حدٍّ كبير وتشهد عدم استقرار على صعيد السياسة والحكم والاقتصاد. وناهيك عن الانقسامات الواضحة في العراق بين شيعة وسنّة وأكراد، يعيش هؤلاء أنفسهم انقسامات داخلية. وقد ساهمت المؤسسات السياسية العراقية التي أُنشئت في أعقاب الغزو الأمريكي عام 2003 في تفاقم هذه الانقسامات، وهي تُعتبر عاملًا رئيسيًا في الشلل السياسي الذي يشهده العراق.

تجدر الملاحظة أن مسألتين كبيرتين وشاملتين في السياسة العراقية تهيمنان على كافة المسائل الأخرى، وهما: التوازن بين الولايات المتحدة وإيران في ما يتعلق بالسياسة الخارجية وعلى المستوى المحلى، وكيفية استحداث نظام حكم مستقر ومستدام يجلب الازدهار للعراق ويعزز شرعية الحكومة ويأتي إلى السلطة بسياسيين عراقيين يخدمون الشعب الذي هو مصدر قوتهم السياسية. وتحدّ هاتان المسألتان الآن بشكل كبير من قدرة العراق على الخروج من أزمته السياسية الحالية ولديهما القدرة على تدمير البلاد ومنعها من أن تكون دولة فعالة تسيّر شؤونها.

ويُعتبر التوازن بين الولايات المتحدة وإيران مشكلة شائكة بالنسبة للسياسة العراقية لأن المعسكرات السياسية في العراق تعوّل على رعاية كلتا الدولتين أو على وظيفة التوازن التي تؤدّيانها. فبعض الأحزاب الشيعية العراقية البارزة تعتبر إيران قدوةً سياسية ومصدرًا للأموال والخبرة التي تساعدها على اكتساب أفضلية سياسية في العراق، فيما يسعى عراقيون شيعة قوميون آخرون إما إلى الموازنة بين إيران والولايات المتحدة أو إلى دفع كلتا القوتين خارج السياسة العراقية. في المقابل، ينتظر العرب السنّة والعراقيون الأكراد من الولايات المتحدة أن توازن سلطة إيران في العراق، ويخشون أنه في غياب الوجود الأمريكي، ستسعى الأحزاب الطائفية الموالية لإيران إلى القيام بما فعلته في العام 2011، أي تهميش السنّة والأكراد العراقيين وإخضاعهم.

في الوقت الراهن، يعتمد العراق نظامًا لصنع السياسات يقضي بمدّ الأجهزة التمثيلية بممثلين عن مختلف المجتمعات العراقية ويمنح كل قائد فئوي سلطةً سياسية معينة غالبًا ما يستخدمها هؤلاء القادة لخدمة مصالحهم الخاصة. وقد أدّى هذا النظام إلى قيام نظام سياسي زبائني حيث تهتم الأحزاب السياسية بتقسيم غنائم السلطة أكثر من تحريك مسار الأمور في البلاد لإيجاد حلول للمسائل السياسية المهمة.

إنّ العراق بأمس الحاجة إلى عدم إقدام الولايات المتحدة وإيران على مفاقمة هذه الجوانب من أزماته الراهنة. ويحتاج هذا البلد إلى أساس متين من أجل المضي قدمًا وخلق مستقبل له وللمنطقة لا ينطوي على صراعات ومنافسة دائمة بين الطوائف.

ما قد يحمله الحوار الاستراتيجي الأمريكي-العراقي في طيّاته

وبصرف النظر عن جميع الاعتبارات الرئيسية التي تم مناقشتها أعلاه، فان توقيت الدعوة إلى الحوار الاستراتيجي – التي أتت بعد سلسلة من الهجمات على القوات الأمريكية في العراق على يد ميليشيات شيعية متحالفة مع إيران – يبرز أن السبب المباشر لمثل هذه المحادثات ما بين الحكومات هو ضمان سلامة القوات الأمريكية في العراق. ونظرًا إلى أن صبر إدارة ترامب حيال الوضع في العراق، وتحديدًا حيال نفوذ إيران وسلطتها في البلاد، بدأ ينفذ، من المرجح إلى حدٍّ كبير أن تُستخدم تلك الاجتماعات كفرصة لطرح مجموعة مهمة من الأسئلة والطلبات على حكومة بغداد.

ومن المحتمل أن تشمل الطلبات/الأسئلة الأمريكية التي ستطرحها الولايات المتحدة على الحكومة العراقية ما يلي:

طلب أن تضمن الحكومة العراقية سلامة القوات الأمريكية والسفارة الأمريكية في العراق والمدنيين الأمريكيين والشركات الأمريكية العاملة في العراق.

متى وكيف ستلتزم بغداد بالسيطرة على سلطة الميليشيات الشيعية المتحالفة مع إيران ووضعها فعليًا تحت سلطة الحكومة المركزية؟

 ما هي الخطوات الموثوقة التي سيتّخذها العراق لاستعادة استقلاليته من إيران في مجال الطاقة؟

ما هي الخطوات الموثوقة التي ستتخذها الحكومة العراقية من أجل تقليص الطبيعة الطائفية للسياسة العراقية، ولا سيما هيمنة القوات السياسية الشيعية الموالية لإيران في البلاد؟

ما هي الخطوات التي ستتخذها الحكومة العراقية للحدّ من الفساد المستشري وتوفير الخدمات الأساسية للشعب؟

ما هو المستوى الذي يريده العراق من حيث القوات الأمريكية والمساعدة المدنية والعسكرية، وما الذي سيفعله لإظهار قدرته على التوحّد والحكم والتنظيم لاستخدام تلك المساعدات بفعالية؟

في حين أن معرفة الأسئلة أو الطلبات التي قد يطرحها الجانب الأمريكي على العراقيين هي مسألة على حدة، فالنظر في ما قد تعرضه الولايات المتحدة – أو تهدد به – بالاستناد إلى الإجابات أو الأفعال التي ستحصل عليها ردًا على تلك الأسئلة/المطالب هو مسألة أخرى. فإذا لم يكن العراق مستعدًا لإعطاء الولايات المتحدة ردًا مناسبًا وتحديد علاقة استراتيجية ملائمة معها، من المحتمل أن ينتهي المطاف بميل كفة ميزان المكافأة والعقاب نحو العقاب أو انسحاب الولايات المتحدة. ونظرًا إلى التكلفة الباهظة لجائحة “كوفيد-19” على الاقتصاد الأمريكي، على العراق ألا يتوقع أن تكون المساعدة الأمريكية سخية بقدر ما كانت عليه في الماضي.

أما النتيجة المحتملة الأسوأ بالنسبة لكل من العراق والمنطقة فهي حوار استراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق يعجز عن إنشاء علاقة مستقرة بين البلدين. ويمكن لنتيجة مماثلة أن تؤدي إلى انسحاب الجيوش الأمريكية من العراق ووقف كافة المساعدات الأمريكية أو حتى فرض عقوبات أمريكية على العراق.

بيد أن الاقتصاد العراقي يعاني جرّاء عقود من سوء الإدارة المزمن وانخفاض تاريخي لأسعار النفط ووباء “كوفيد-19”. ويمكن لقرار أمريكي بوقف المساعدات كلياً أو فرض عقوبات أمريكية على العراق أن يدفع بالدولة العراقية إلى فقر مدقع وعجز عن تقديم أدنى الوظائف الأساسية.

فضلًا عن ذلك، فإنّ العجز عن التوصل إلى علاقة استراتيجية عملية قد يُسفر عن مجموعة من التداعيات السلبية على الولايات المتحدة، ما قد يعزز النفوذ الإيراني. علاوة على ذلك، قد يُنظر إلى قيام إيران بزيادة الموارد والقوى العاملة الإيرانية للضغط لترسيخ نفوذها في العراق على أنه غير ضروري في حال خروج الولايات المتحدة من العراق. وقد لا تشعر إيران بأنها مضطرة إلى توجيه تلك الموارد نحو العراق، ما يؤدي إلى بقاء المزيد من الموارد الإيرانية في الداخل لدعم النظام أو إلى تحويلها إلى حلفاء آخرين موالين لإيران في المنطقة.

أهمية التوقعات الواقعية

بينما تبدو النتائج المفصّلة أعلاه لحوار استراتيجي فاشل بمثابة أسوأ السيناريوهات، فهي نتائج محتملة على نحو معقول ما لم يكن لحكومة الولايات المتحدة والقوات السياسية المتباعدة في العراق توقعات واقعية من بعضها البعض.

في هذا الإطار، يتعين على النخب السياسية العراقية إدراك أن الوضع الراهن في البلاد لن يدوم على المدى الطويل. وكحدّ أدنى، يجب أن تكون هذه النخب قادرة على إعطاء وعدٍ بضمان سلامة القوات العسكرية الأمريكية والمواطنين الأمريكيين في العراق. كذلك، لا بدّ من أن تعدّ هذه النخب نموذجًا سياسيًا لا يستند في المقام الأول إلى الهويات الطائفية في منافسة لا غالب فيها ولا مغلوب. لا شك في أن القول أسهل من الفعل، لكن من الواضح أن العراق يتوجه نحو إخفاق اقتصادي وسياسي إذا لم يتغير نموذجه السياسي ليصبح نموذجًا يولي الأولوية للهوية والمصالح العراقية على الأجندات دون الوطنية.

في الوقت نفسه، على الحكومة الأمريكية وضع توقعات واقعية لما يمكن للعراقيين أن يقدموه فعليًا. فمن المنطقي والصائب توقّع أن تحمي الحكومة العراقية القوات والمواطنين الأمريكيين المتواجدين في البلاد. كما من المنطقي توقّع ألا تتبخر مساعدة الولايات المتحدة المقدمة إلى العراق في جحر الفساد. لكنّ وضع العراق على مسار تشكيل حكومة فعالة ونظيفة يستغرق وقتًا لإنجازه، حيث تعمل قيادته على دفع البلاد نحو حكومة فعالة.

وفي هذا السياق، يمكن للولايات المتحدة لعب دور مهم في رعاية حكومة فعالة في العراق من خلال الحفاظ على مسارها الحالي معه المتمثل بمحاربة الفساد والمساعدة في تطوير البنية التحتية وعمل الشرطة وغيرها من المساعي التي تبني مستقبل العراق. ويُعتبر تدريب وتثقيف الجيل التالي من السياسيين والقوات الأمنية والبيروقراطيين في العراق مهمة أمريكية أساسية.

والأهم من ذلك هو أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تتوقع من العراق الاضطرار إلى اتخاذ قرار واضح والاختيار بين إيران وأمريكا. فالعراق الديمقراطي لا يمكنه اختيار جهةٍ أو أخرى بدون أن يزعزع هذا الخيار استقراره بشكل كبير. وبحكم خصائص العراق الديمغرافية والجغرافية، من غير الواقعي الطلب منه التخلّص من النفوذ الإيراني. وعلى الحكومة الأمريكية القبول بعراقٍ تربطه علاقات جيدة مع كل من الولايات المتحدة وإيران.

رغم التحديات، لا بدّ من الإشارة إلى أنه للعراق والولايات المتحدة إطار عمل قابلًا للتطبيق يمكنهما إجراء حوار استراتيجي من خلاله استنادًا إلى الاتفاقات القائمة بين الطرفين. فـ”اتفاقية وضع القوات” و”اتفاق الإطار الاستراتيجي” المشتركان بين الولايات المتحدة والعراق والموقّعان في كانون الأول/ديسمبر 2008 والمطبّقان في كانون الثاني/يناير 2009 يغطيان تقريبًا كافة مجالات التعاون المحتمل بين البلدين ويعالجان العديد من هذه المسائل. ويشكل هذان الاتفاقان نقطة انطلاق جيدة لاستئناف الحوار بينهما بشأن التوقعات والالتزامات المتبادلة. فالعراق بحاجة إلى ولايات متحدة ملتزمة بأمنه، والولايات المتحدة بحاجة إلى عراق يعتبرها شريكًا وصديقًا في آن. في كافة الأحوال، يُعتبر الحوار الاستراتيجي نقطة الانطلاق المثلى، ولدى الطرفين كل الأسباب الوجيهة لرسم معالم علاقة جديدة يمكنها أن تؤدي إلى شراكة استراتيجية دائمة.

*- كارل كالتنثالر، هو أستاذ العلوم السياسية ومدير الدراسات الأمنية بجامعة أكرون. وهو متخصص في قضايا الأمن الدولي والتطرف العنيف وسياسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وقد عمل كمستشار لوزارة الخارجية الأمريكية، والجيش الأمريكي، والوكالات الحكومية الأخرى في القضايا المتعلقة بسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

*- يمتلك منقذ داغر سجلاً مميزاً من الدراسات الاستقصائية المتعمقة حول الشرق الأوسط، بما في ذلك القضايا المتعلقة بالصراعات الحالية في كلا من العراق وسوريا، حيث قام بالتعاون على نطاق واسع مع العديد من مؤسسات استقصاء الرأي الدولية الرئيسية وقام بنشر تلك الدراسات على نطاق واسع باللغة العربية.

*- يترأس أنتوني كوردسمان هو أستاذ كرسي أرليه بورك في الشؤون الاستراتيجية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. كما عمل أيضا مديرا لمشروع تقييم شبكة الشرق الأوسط، وإدارة مبادرة الطاقة الاستراتيجية لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.

المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى