كل هذا الترويج لتطبيع سوري

سميرة المسالمة

يتناقض السلوك الاستفزازي الإسرائيلي لسورية مع الترويج المتكرّر لاتفاقات سلام قريبة معها، فهذه التوغّلات والاعتداءات الإسرائيلية، التي تستهدف استقرار الدولة السورية وسيادتها، تقوّض الفرضيات عن قرب إقامة علاقات تطبيع كاملة، إسرائيلية سورية، وتربك المشهد السياسي في لحظة سياسية تستوجب التهدئة، ما يجعل هذه الاعتداءات تبدّد فرص السلام المحتمل، كما أنها تبدّد مقولة أن القيادة الانتقالية في سورية ذاهبة “حكماً” إلى دفع ثمن رفع الولايات المتحدة العقوبات المفروضة على دمشق، بالانخراط في اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل لضمان أمن حدودها.
ومن البديهي، أيضاً، ألا ننساق وراء فكرة أن لهذه التوغّلات والاعتداءات علاقة بتوجيه ضربات استباقية، أو وقائية، تتحسّب لها إسرائيل من جهة سورية، إذ لم تتوان إسرائيل منذ لحظة تحرير سورية من نظام الأسد ومليشيات إيران، على متابعة تدمير البنية التحتية للجيش السوري، في الجغرافيا السورية كاملة، وهذا يشمل الأسلحة الجوية والبحرية والجوية كافّة، وحتى مستودعات السلاح، والمرافق اللوجستية.

الهدف من التوغّلات الإسرائيلية، ليس الحماية الاستباقية لإسرائيل، بل إضعاف قدرة القيادة الانتقالية الجديدة على فرض سيادتها في مجمل الأراضي السورية

على ذلك، تتوخّى إسرائيل من توغلاتها واعتداءاتها المتكرّرة في سورية (ولبنان أيضاً)، فرض نوع من واقع يطبّع مع مقولة أن ذراع إسرائيل طويلة، وقادرة أن تمتدّ أينما شاءت، من دون عواقب محتملة، وتالياً الرضوخ لطلب إسرائيل وجود عمق أمني في سورية (ولبنان)، يقدّر بعشرات الكيلومترات، إذ أعلن العديد من قادتها أن إسرائيل ستمنع وجود أي قواعد عسكرية سورية في محافظات درعا والسويداء والقنيطرة. من هنا، يمكن فهم أن الحديث الإسرائيلي عن الجنوب السوري لا يهدف إلى توطين الأمن فيه بالمطالبة بجعله أعزل من السلاح، بقدر ما يبعث رسائل عديدة، منها إحباط قدرة السلطة المركزية على تحقيق وعودها لشعبها بالاستقرار والازدهار، على الرغم من أن الرئيس السوري المؤقت، أحمد الشرع، ووزير خارجيته أسعد الشيباني، أكّدا (مراراً وتكراراً) أن أولويات سورية ترسيخ السلم الاجتماعي، واستنهاض الاقتصاد، وإعادة الإعمار، وإخراج سورية من حال العزلة التي كانت تعيشها. أي إن وجود الجيش السوري، وسيادة الدولة في كلّ الجهات، لن يغيّر من أن الأولوية للسلام وليست للحرب، ما يعني أن الهدف من التوغّلات والتدخّلات الإسرائيلية، ليس الحماية الاستباقية لإسرائيل، بل إضعاف قدرة القيادة الانتقالية الجديدة على فرض سيادتها في مجمل الأراضي السورية، عبر مخاطبة النزعات الاستقلالية لدى أطرافٍ عديدة في سورية، في الجنوب والشمال الشرقي والساحل، بدعوى دفاع إسرائيل عن الأقلّيات الإثنية والدينية، فإسرائيل ترى أمنها في ضعف القوى المجاورة لها، لا عسكرياً فحسب، إذ تدرك تفوّقها بالسلاح الذاتي والمدعوم أميركياً ودولياً، ما يعني أنها تستهدف تمزيق المجتمعات إلى طوائف وقوميات، لضمان تخليق مثيلها في دول المشرق العربي، إذ ثمّة ديمقراطية توافقية في لبنان، وثمّة مثلها في العراق، لذا تحاول إسرائيل توظيف طاقتها السياسية والعسكرية كلّها كي تأخذ سورية إلى النموذج نفسه، أي شكل الديمقراطية التوافقية الطائفية والإثنية، وهي حتماً غير التي ينادي بها السوريون، لذا فهي تسخّر جهدها السياسي والعسكري والدبلوماسي للدفع في هذا الاتجاه.
ضمن هذا السياق، يبدو أن أولويات القيادة السياسية الابتعاد عن الدخول في ملفّات معقّدة، بالنظر إلى حاجتها إلى استعادة الأمان في سورية، ووضع البلد في سكّة التعافي من كلّ النواحي، وتالياً إيجاد نوع من الاجماع يستعيد الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي. ولهذا تركّزت التصريحات المقتضبة للقيادة السورية (منذ تولّيها) في أنهم غير معنيين بعداوات مع محيطهم، وإن سورية لن تكون منصّة لاستهداف إسرائيل من أي طرفٍ كان. أيضاً، لا يعني ما سبق، استبعاد عقد اتفاقيات أمنية بين الطرفَين، بل تكاد هذه تكون ضرورة لمنع الاعتداءات والتوغّل في الأراضي السورية، وهي حتماً قد تمهّد لعملية سلام شاملة، وهذه تختلف جوهرياً عن مسألة التطبيع مع إسرائيل، وهو ما أكّدته تصريحات رسمية أخيراً، وما جرى الحديث الرسمي عنه بهذا الخصوص، أمّا ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية، فإن القول “بقبول سورية ما يقبل به الفلسطينيون، عبر منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلهم الشرعي والوحيد”، وهو ما أُكّد في زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس دمشق، حيث التقى فيها بالرئيس السوري الشرع، وهذا يندرج أيضاً ضمن سياسة مُعلَنة، هي عدم التدخل بشؤون الدول.

أولويات القيادة السياسية الجديدة الابتعاد عن الدخول في ملفّات معقّدة، بالنظر إلى حاجتها إلى استعادة الأمان في سورية

ولعلّ من المفيد التذكير بأن تصريحات المسؤولين السوريين أحالت مسألة التطبيع إلى التوافق العربي، الذي لا يبدو قريباً جدّاً كحال الشائعات المتداولة، فالسعودية رفضت السير في هذا الاتجاه قبل قبول إسرائيل إقامة دولة فلسطينية مستقلّة، مع حاشية إضافية سورية تتعلّق باشتراط عودة الجولان المحتلّ للسيادة السورية. فالمطالب السورية تركّز على عودة إسرائيل إلى حدود اتفاق وقف إطلاق النار (1974)، والخروج من المناطق العازلة، إضافة إلى بحث ترتيبات أمنية ومائية، سواء وفق مباحثات مباشرة أو عبر وسطاء، لتحقيق مناخ سلام قابل للاستثمار فيه، وترويج ما بعده، فحيث إن المعطيات الحالية للواقع الإقليمي برمتها جعلت الرئيس الأميركي دونالد ترامب (يُراهن على قدرته بإنجاز التطبيع العربي مع إسرائيل) يبدي على العلن “عدم يقينه من إمكانية التطبيع السوري الإسرائيلي”، ما يجعلنا نتساءل: على أي أساس تبني أذرع إسرائيل “الترويجية” فكرة التطبيع القريبة والمصافحة الممكنة؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى