
تُعدّ إشكالية بناء الدولة في سوريا واحدة من أبرز التحديات السياسية والاجتماعية التي تواجهها البلاد منذ عقود. فمنذ بداية الحرب التي تلت ثورة 2011، دخلت سوريا مرحلة من تفكك مؤسسات الدولة وتآكل سلطتها المركزية، ليظهر أمام السوريين عدد من الأسئلة المحورية الإشكالية حول مفهوم الدولة ودورها: كيف يمكن إعادة بناء دولة ذات سيادة قادرة على فرض القانون والنظام في ظل تباين القوى السورية وكذلك الدولية والإقليمية؟ وهل يمكن للحكم الجديد في سوريا انتهاج سياسة تضمن مشاركة جميع الأطراف السورية المعنية في عملية إعادة بناء الدولة؟
إن إشكالية بناء الدولة في سوريا لا تتوقف عند إعادة تأسيس المؤسسات السياسية والاقتصادية، بل تمتد لتشمل إعادة تعريف الهوية السورية وتحقيق الوفاق الاجتماعي بين مختلف المكونات السورية الإثنية والطائفية.
يُعدّ الدستور حجر الأساس في بناء دولة المواطنة، لذلك يجب أن ينص بوضوح في المستقبل على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين.
مبادرات لبناء الدولة في سوريا
مع سقوط النظام الأسدي عام 2024، دخلت البلاد مرحلة سياسية جديدة تحت قيادة الرئيس أحمد الشرع، الذي أطلق عددًا من المبادرات لإعادة بناء الدولة السورية، من أبرزها:
- إصدار إعلان دستوري مؤقت يحدد التوجهات الأساسية للدولة، ويتضمن التأكيد على الهوية العربية والإسلامية لسوريا من خلال إطلاق تسمية “الجمهورية العربية السورية” على الدولة، واعتماد الفقه الإسلامي مصدرًا رئيسًا للتشريعات السورية.
- تشكيل حكومة انتقالية تعتمد معايير الكفاءة في تعيين الوزراء، بعيدًا عن المحاصصة السياسية والطائفية.
- إعادة هيكلة الاقتصاد من خلال فريق من الخبراء الاقتصاديين، لمكافحة الفساد وتحقيق استقرار اقتصادي.
- إعادة هيكلة الجيش والمؤسسات الأمنية من خلال دمج الفصائل المسلحة ضمن جيش وطني جديد، مع الدعوة لحل الميليشيات العسكرية غير الحكومية، بما في ذلك هيئة تحرير الشام، وضبط السلاح وحصره بيد الدولة، كجزء من جهود تحقيق الاستقرار.
- التأكيد على وحدة سوريا الجغرافية من خلال رفض أي ترتيبات فيدرالية مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ضمن اتفاق مشترك.
- الدعوة إلى تشكيل مجلس تشريعي وقضائي، والتأكيد على الفصل بين السلطات الثلاث.
متطلبات بناء دولة المواطنة في سوريا
تشهد سوريا تحديات كبيرة في سعيها نحو بناء دولة المواطنة المعاصرة، وهي الدولة التي تقوم على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو السياسية. ويتطلب تحقيق هذا الهدف تبنّي استراتيجيات شاملة تعالج الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال ما يلي:
- إصلاح المنظومة الدستورية والقانونية
يُعدّ الدستور حجر الأساس في بناء دولة المواطنة، لذلك يجب أن ينص بوضوح في المستقبل على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين، وضمان حقوق الإنسان، وتعزيز سيادة القانون. كما ينبغي مراجعة القوانين والتشريعات لضمان عدم وجود أي تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو التوجه السياسي، مع تفعيل دور القضاء المستقل لضمان العدالة للجميع. - حل إشكالية هوية الدولة السورية
تُعدّ هذه الإشكالية إحدى المشكلات القديمة التي ورثتها الدولة السورية عند ولادتها، وعاشت معها طوال العقود الماضية من دون أن تتمكن من حلها أو احتوائها. تفاقمت هذه الإشكالية وبلغت ذروتها بعد ثورة 2011، إذ تنازعت المواطن السوري ثلاث هويات متنافسة، إن لم تكن متناقضة: الوطنية السورية، والقومية العربية، والدينية الإسلامية. وكان من شأن كل اختيار ضمني أو صريح لإحدى هذه الهويات أن يُحدث مشكلات داخلية أو إقليمية. فقد اصطدمت الهوية الوطنية السورية بمشروع الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، واصطدمت الهوية القومية العربية بمشاعر المكونات القومية غير العربية داخل الدولة، مثل الأكراد والتركمان، كما اصطدمت الهوية الدينية بمشاعر غير المسلمين. ومن ثمّ، كانت تداعيات الاختيار بين هذه الهويات ولغة الخطاب السياسي والممارسة الفعلية المصاحبة لكل خيار، إشكالية مزمنة للدولة السورية. - حل إشكالية الطائفية السياسية
ويقصد بها ألا تتمحور السلطة حول طائفة معينة بما يخدم الجماعة التي ينتسب إليها الحاكمون ومن يدور في فلكهم. إذ تشير الطائفية السياسية إلى استخدام التنوع الديني لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو ثقافية لصالح طائفة معينة، مما يؤدي إلى خلق حالة من التمييز وعدم العدالة. - تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية
وذلك من خلال إنشاء آليات لمحاسبة مرتكبي الجرائم والانتهاكات، مع التركيز على العدالة التصالحية. ويجب دعم برامج المصالحة المجتمعية لتخفيف الاستقطاب الطائفي والعرقي، وتعويض الضحايا، وضمان عودة المهجّرين واللاجئين بأمان. - إصلاح النظام التعليمي
ينبغي تحديث المناهج الدراسية لتعزيز ثقافة التعددية والانتماء الوطني، وتدريس التاريخ السوري المعاصر بمقاربة منصفة تعكس الهوية الوطنية السورية بجميع أبعادها. ويُفترض أن تشمل المناهج قيم الديمقراطية والمساواة والعيش المشترك، مع التركيز على تعزيز التفكير النقدي ونبذ التعصب. - تفعيل دور وسائل الإعلام
وسائل الإعلام مطالبة بلعب دور إيجابي في ترسيخ مفهوم المواطنة من خلال تقديم محتوى يعزز الحوار والتفاهم بين أفراد المجتمع، ودعم منصات إعلامية مستقلة تُعزّز التفاهم بين المكونات المختلفة، وتواجه خطاب الكراهية، إضافة إلى إنتاج محتوى ثقافي وفني يعكس الهوية السورية الجامعة. - تعزيز المشاركة المجتمعية والسياسية
وذلك عبر دعم الأحزاب والتيارات السياسية التي تتبنى خطابًا وطنيًا جامعًا، بالاستناد إلى قانون عصري للأحزاب السياسية. كما ينبغي تشجيع منظمات المجتمع المدني على تنفيذ مشاريع بناء السلام والحوار. - تحقيق تنمية اقتصادية عادلة
يجب تنفيذ إعادة الإعمار ضمن رؤية تحقق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، مع الحد من هيمنة النخب الاقتصادية الفاسدة، وتمكين الفئات المهمّشة من المشاركة في العملية التنموية. ويتطلب ذلك محاربة الفساد وتوفير بيئة استثمارية عادلة تتيح للجميع فرصًا متساوية للعمل، إلى جانب تعزيز سياسات الحماية الاجتماعية لضمان عدم تهميش أي فئة من فئات المجتمع. - تعزيز الهوية الثقافية الوطنية
من خلال إعادة الاعتبار للرموز الوطنية السورية الجامعة، وإبراز الشخصيات التاريخية التي أسهمت في بناء الدولة السورية، ودعم الأنشطة الثقافية والفنية التي تحتفي بالتعددية وتعزز التفاعل بين مختلف المكونات.
يتطلب نجاح عملية بناء الدولة إعادة النظر في مأسسة الديمقراطية، وتعزيز وحدة الهوية الوطنية، وحماية حقوق جميع مكونات المجتمع السوري بعيدًا عن التقسيمات الطائفية والدينية.
الأمل في دولة ديمقراطية حديثة
إن بناء الدولة السورية الحديثة يتطلب تجاوز العديد من التحديات العميقة والمعقّدة، التي نشأت من تاريخ طويل من الاستبداد والصراعات الداخلية والخارجية. ومع دخول البلاد مرحلة انتقالية جديدة، يبقى الأمل معقودًا على قدرة الحكومة الانتقالية على معالجة إشكاليات الهوية، وتحقيق العدالة والمصالحة الوطنية، وضمان التوزيع العادل للسلطة والموارد.
يتطلب نجاح عملية بناء الدولة إعادة النظر في مأسسة الديمقراطية، وتعزيز وحدة الهوية الوطنية، وحماية حقوق جميع مكونات المجتمع السوري بعيدًا عن التقسيمات الطائفية والدينية. إن استعادة سيادة الدولة وتعزيز مؤسساتها لن يتحقق إلا من خلال خلق بيئة سياسية شفافة، تؤكد على أهمية المشاركة الشعبية، ووجود نظام قضائي عادل، بالإضافة إلى بناء اقتصاد مستدام ومتوازن.
وتبقى الحاجة إلى دعم المجتمع الدولي والمحيط الإقليمي ضرورة ملحة لتحقيق الاستقرار في سوريا، من أجل بناء دولة ديمقراطية حديثة قادرة على تجاوز آثار النظام الأسدي الاستبدادي.
المصدر: تلفزيون سوريا