حزب الله الأسدي

عمر قدور

مع كل التحفظات التي أحاطت بقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، يمكن القول إن القرار والتعاطي معه يستهلان حقبة جديدة لحزب الله ولما يطلق عليها عادة تعبير “البيئة الحاضنة”. من هذه اللحظة التي طال انتظارها، سيكون الحزب وبيئته في مواجهة حكم قضائي صريح، ولو أتى من محكمة لا يعترفان بها. التشكيك المسبق بالمحكمة كان مشحوناً بالاقتناع بأنها ستتوصل إلى أكثر مما توصلت إليه فعلاً، أي أنه يضمر الاقتناع بمسؤولية الحزب، وربما هناك قلة ساذجة جداً من أنصاره تتبنى بصدق نظرية المؤامرة عليه وإلباسه التهمة.

يستهل الحزب حقبة جديدة مع أنصاره في المكاشفة الداخلية غير المعلنة، فها هو أخيراً “خارج الظنون وحدها” مدانٌ بجريمة الاغتيال، واللبنانيون بعمومهم مقتنعون بأن قرار المحكمة قاصر حتى عن إعلان الأمين للحزب عدم وجود عناصر غير منضبطة لديه، بمعنى إعلانه المسبق عن مسؤوليته عن تصرفات أعضاء الحزب، يعزز إعلانه أنه يتعلق بعملية ضخمة يستحيل ردّها إلى سلوك منفلت. إذاً، أنصار الحزب هم اليوم على محك القبول العلني بالجريمة والدفاع عن القاتل أو النأي عنه. إنه قرار شبه تأسيسي، فالقبول بالاستمرار يضمر قبول الجريمة وتبنيها.

قد يُقال إن جمهور الحزب الذي يعرف الحقيقة منذ وقوع الاغتيال، وقَبِل لاحقاً كافة ممارسات الحزب وصولاً إلى تدخله وحربه على السوريين، لن يغصّ باغتيال رئيس وزراء لبناني سابق لا يكنّ له الود. يصحّ هذا نظرياً وأخلاقياً، لكن حروب الحزب في سوريا واليمن وربما العراق مغطاة بأيديولوجيا وشعارات. بقدرٍ ما، هي أقل وضوحاً من اغتيال شخص لم يُعلَن مثلاً ولو لمرة أن طريق القدس يمرّ فوق جثته. فضلاً عن ذلك، كان حدثُ الاغتيال مسموعاً ومرئياً، كما لو أنه نسخة صغيرة عن الانفجار الذي أودى بمرفأ بيروت مؤخراً.

في تعاقده المتجدد مع أنصاره، لا يخسر الحزب سمعة طيبة، فالأهم أنه يكسب ولاءهم على قاعدة الاعتراف به كما هو، والمضي خلفه بكل ما يرتكبه. طالما أن قرار المحكمة لن يؤدي إلى تململ ملحوظ في بيئة الحزب، فهو بمثابة مكسب له، إذ ليس أفضل من تلك البيئة التي تصطف وراءه على علاته. هذه رسالة يستقوي بهم فيها على الخصوم، فهو مُطلق اليدين بقاعدته الصلبة وبما يتوفر له من إمكانيات استخدام العنف.

عاجلاً أم آجلاً، ستنتبه تلك القاعدة إلى أن وقوفها مع الجريمة يجعلها شريكة فيها، وهذا تأويل لا ينتظر اتهاماً من الآخرين بل تستبطنه هي بنفسها. أبعد من ذلك، سيكون إحساس التورط بتلك الشراكة أقوى من الإشارات التي تصدر من خارج بيئتها وتهدف إلى دحضه، فالآخر لا بد أن يكون صاحب ثأر بعد حرمانه من العدالة، ومن المحتمل جداً ألا يميز ثأره بين مشارك مباشر في الجريمة ومؤيد لها أو صامت عنها.

أكثر مما قبل، يصبح الحزب أسدياً، والنسَب هنا عائد إلى الأسبقية الزمنية للأسدية، واكتسابها الولاء ثم المزيد منه كلما تورط جمهورها في المزيد من تأييد ما ترتكبه. ربما أيضاً هو مسار نموذجي، نكون فيه سذّجاً إذ يفاجئنا اشتداد الولاء مع تراكم الموجبات الأخلاقية لانفضاضه. الواقع أن الجمهور المعني بغالبيته مدرك لتورطه، ولا يجد اطمئناناً إلا بقوة مَن كان سبباً في توريطه وبدعمه بوصفه المنقذ الوحيد. الأقرب إلى الدقة أنه لن يجد اطمئناناً إلا في الهيمنة والمزيد منها، بها فقط يطمئن نفسَه بنفسه.

تعليق لافتة واحدة تفتخر بـ”المقاوم الحاج سليم عياش”، بعد إدانته، كافٍ للإشارة إلى المسار المقبل. فالحزب لن يسلّمه للسلطات اللبنانية، عندما تقرر تنفيذ طلب توقيفه بموجب قرار المحكمة، مثلما امتنع من قبل عن تسليم المتهمين الذين كانوا خمسة. سيكون ما بعد قرار المحكمة كما كان من قبل، بما في ذلك سيطرة الحزب على السلطة، والأصح أن بقاء الحال ظاهرياً على ما كان عليه يعكس تمكناً وهيمنة متصاعدة للحزب بقدرته على ازدراء حكم المحكمة واللبنانيين المقتنعين به، بمن فيهم شركاء محتملون في السلطة، وقد يصر على مشاركتهم بعد صدور القرار إمعاناً في إذلالهم.

هناك كليشيهات جاهزة للتغطية على العجز عن تنفيذ الحد الأدنى من العدالة، رغم هزاله وقصوره، من قبيل المحافظة على السلم الأهلي وحماية الوطن. وهذه لافتات تُبتذل بصدورها عن عجز، وتُبتذل بوضعها على الضد من الحد الأدنى للعدالة، فلا دولة حقاً من دون هذا الحد الأدنى، ولا سلم أهلياً يُبنى على التكاذب، ولن يُبنى حتى مع كل التنازلات المتوقعة لأن الحزب ومؤيديه لن يطمئنوا إلى تنازل الضعفاء، ولن يطمئنوا سوى بإبقائهم ضعفاء.

المصيبة في سلوك القاعدة الصلبة للحزب وللأسدية في سوريا أنها كَمَن في وسط دوامة تشده إلى الأسفل، وإما أنه يرفض اليد التي تمتد إليه من خارجها، أو يجرّ صاحبها ويغرقه. المصيبة أن هذه الدوامة تستغرق البلد بأكمله، فلا يمكن للآخرين المضي من دونها، ولا يمكن لهم اجتذاب تلك القاعدة مهما حاولوا. ربما ينبغي التسليم بأنها من الصلادة بحيث لا يمكن اختراقها أو تفتيتها إلا من داخلها، بفعل استنفاذ أغراض الخارج الداعم، أو بتغلّب تناقضاتها الذاتية على مخاوفها التقليدية. إن الخطر عليها، وفق مخاوفها، لا يأتي مما تحتاط جيداً له، الخطر يأتي غالباً من بدء تصريف فائض القوة ضمن الجماعة ذاتها.

كان جيداً لعموم منطقتنا لو غادرت المحكمة الخاصة بلبنان الإطار الرمزي وحققت فعلياً ولو قدراً ضئيلاً من العدالة، كان ذلك ليزرع قليلاً من الأمل لدى أولياء الضحايا الكثر على امتدادها. أيضاً، بقدر ضئيل من العدالة كان يمكن إنقاذ من هم في جهة الجناة، إنقاذهم من أن يصبحوا شركاء في الجريمة.

 

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى