كنيسة مار إلياس.. فراغ الدولة وتفجير العنف

مالك داغستاني

مساء الأحد، في الثاني والعشرين من حزيران الجاري، تعرّضت كنيسة مار إلياس بحي الدويلعة الدمشقي لهجوم مسلح، أعقبه تفجير انتحاري خلّف عددًا من القتلى والجرحى المصلّين. حدثٌ موجع في بلد لم يتعافَ بعد من آثار أكثر من عقد دموي، وهو بالكاد يخطو بخجل نحو بناء دولة جديدة على أنقاض نظام إجرامي شمولي، وحروب متشابكة ومعقّدة داخلياً وخارجياً.

السلطات السورية سارعت إلى اتهام تنظيم داعش، قبل أن تتبنى الهجوم جماعة غير معروفة نسبياً، تُدعى “أنصار السنّة”. ثم لم تلبث الجريمة أن تحوّلت إلى مادة سجالية بين السوريين، لا سيما ضمن النخب الثقافية والسياسية، فانقسم الرأي بين من حمّل الدولة الجديدة مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة، ومن اعتبر الهجوم مجرد نتيجة “إرهاب منفلت” لا علاقة للسلطة به. وآخرون، أقلّ عددًا رغم أنهم أكثر استفزازاً، ذهب هؤلاء إلى أن فكر الانتحاري المهاجم لا يبتعد كثيراً عن بعض التوجهات الفكرية والأيديولوجية لأطراف وشخصيات مشاركة في الإدارة الراهنة.

سوريا اليوم ليست مجرد “دولة ما بعد النزاع”. إنها دولة على مفترق طريق وجودي، تحاول إعادة تعريف ذاتها السياسية والاجتماعية، في ظل تركة ثقيلة من الانقسام الطائفي والعنف الرمزي والمادي.

لكن أين تقف الحقيقة في هذا المشهد المعقّد؟ وما حدود المسؤولية الفعلية للدولة؟ وما المطلوب منها لتتحمل واجباتها في حماية شعب متنوع المذاهب والديانات والأعراق؟ طبعاً لا إجابات حاسمة ويقينية في ظل وضعنا المعروف ومع ذلك سأحاول. في أي دولة ذات سيادة، تكون مسؤولية حماية المواطنين وضمان سلامتهم الجسدية والروحية من أخصّ واجبات السلطة التنفيذية، وفقاً للشرائع الدولية لحقوق الإنسان، كما للدساتير الحديثة التي تنص صراحة على كفالة حرية العبادة وممارسة الشعائر، دون خوف أو تمييز.

قد لا تكون الدولة مسؤولة “جنائياً” عن كل فعل فردي أو إرهابي يقع على أرضها، لكن غياب الإجراءات الأمنية الرادعة، أو الاستخبارات الوقائية، أو الفشل في خلق بيئة سلم أهلي، يجعلها مسؤولة سياسياً وأخلاقياً. فالدولة ليست حارسة جدران فقط، بل يفترض بأنها الراعية لعقد اجتماعي، يحمي الأقلية والأكثرية، والمختلف معها قبل المتماهي في كل ما تذهب إليه.

يُفترض، بل ومن البديهي أن من واجبات الدولة الأساسية مكافحة الحواضن الفكرية للعنف، لا فقط ملاحقة مرتكبيه بعد وقوع الفعل. وهذه مسؤولية ثقافية وتشريعية وتربوية لا تُختصر في القبضة الأمنية. بل لها برامجها التي لم يلحظ السوريون حتى اليوم أي توجهات جدّية للبدء بها، وهذا ما يمكن وصفه بأنه فشل سياسي في احتواء التنوع.

سوريا اليوم ليست مجرد “دولة ما بعد النزاع”. إنها دولة على مفترق طريق وجودي، تحاول إعادة تعريف ذاتها السياسية والاجتماعية، في ظل تركة ثقيلة من الانقسام الطائفي والعنف الرمزي والمادي، زرعته عقود من الحكم الأمني، وتفاقم خلال العقد الأخير. في مثل هذا السياق، كان يُفترض أن تكون أولوية السلطة الجديدة بناء خطاب وطني جامع، ينأى بلغته عن الاصطفاف الديني والمذهبي، ويعيد ثقة المكوّنات، ومنهم المسيحيون، الذين لعبوا أدواراً محورية في الحياة المدنية السورية تاريخياً، قبل أن يتحولوا إلى ضحايا مزدوجين، لنظام يبتزهم بذريعة حمايتهم، ولجماعات متشددة تحمّلهم تبعات ما لا يد لهم فيه.

لكن هذا لم يحصل للأسف، أو أنه يحصل لماماً، من بعض شخصيات السلطة بشكل إفرادي، ببطء لا يناسب حجم الجراح. ما أدى إلى بقاء كثير من السوريين، من كل الطوائف، أسرى للشعور بأن الدولة الوليدة ما زالت تفتقد إلى روح المواطنة العادلة، وأن بعض رموزها أو مؤسساتها تتعامل بمنطق الغلبة لا الشراكة.

مع بعض، ربما الكثير، من التعديلات الإيجابية لسلوك وخطاب السلطة، كان يمكن لهذه الجريمة أن تتحول إلى لحظة توحّد وطني حول الدولة، وأن تُستثمر لإعادة تشكيل مفهوم “العيش المشترك”، والتأكيد على أن الدولة هي المظلة الحامية للجميع. لكن ذلك لم يحصل، بسبب أن رد الفعل الرسمي جاء تقليدياً ويفتقد إلى أية روحيّة مختلفة. أقرب إلى بيان مكرر، خالٍ من الحس السياسي العميق. طبعاً إضافة إلى عدم إظهار مستوى كافٍ من الشفافية حول ملابسات الحادثة، حين سارعت لاتهام طرف قبل التحقق من المعطيات، مما أثار شكوكاً وشائعات. وهذا كما أرجِّح، بسبب أن بعض الخطابات والممارسات في المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية، ما زالت تتعامل مع التنوع السوري بوصفه ملفاً حساساً لا أولوية وطنية.

كانت رسالة قوية، لو تم الإعلان عما يشبه حالة طوارئ أمنية في دور العبادة، ووضع خطة صارمة لحمايتها. وتشكيل لجنة تحقيق مستقلة وشفافة، تضم قضاة، وممثلين عن الطوائف، وخبراء أمنيين، لإظهار جدية في تحقيق العدالة. والأهم زيارة رسمية عالية المستوى إلى موقع الجريمة، من قبل رئيس الدولة، لإظهار التقدير والتضامن. ومن ثمّ إطلاق خطاب رسمي جامع، يتجاوز الإدانة الشكلية، ويتحدث عن حماية التعدد كواحدة من المهام الوجودية للدولة.

أما ما يجب أن يلي تلك الإجراءات السريعة، فإن الأهم هو القيام بمراجعة مناهج التعليم والإعلام الرسمي والديني، لتجفيف منابع الكراهية، وتحصين الجيل الجديد من السقوط في فخ العنف الطائفي.

في حيّ الدويلعة الشعبي، سقط دمٌ سوري فقط، ولو كنا في بلد طبيعي، كان الأجدر عدم السؤال عن الطائفة.

الخلاصة الأهم أنه لا أمن ولا عدالة من دون وقاية ثقافية، ولا دولة بلا مواطنة. ففي نهاية المطاف، لن تُبنى سوريا المستقبل على أنقاض العنف السابق الذي نتكئ عليه للتبرير كلما واجهتنا معضلة مصيرية. إنها تبنى على الاعتراف العميق بأن دولة العدالة لا يمكن أن تقوم إذا لم يشعر الفرد بأنه محمي من التمييز، ومن الخوف، ومن الاستهداف بسبب دينه أو طائفته.

هذه الجريمة ليست الأولى، وقد لا تكون الأخيرة، لكن اختبار الدولة الحقيقي ليس باعتقال المنفّذين، بل في قدرتها على تغيير السياق الذي أنتجهم. في كنيسة مار إلياس، لم يُقتل المصلّون فقط، بل كُسرت مرة أخرى صورة سوريا التي حلم بها كثيرون: وطن لكل أبنائه، لا مجرد ساحة تصفية حسابات بين التطرف وما يشبه الصمت أو التعامي.

التفجير الإجرامي، يحيلنا للاعتقاد والتمنّي، بأن أجراس كنيسة مار إلياس التي سكتت مساء الأحد، لم تكن تنادي للصلاة فقط، بل كانت تدقّ في هشيم ذاكرة وطنٍ أنهكته الدماء. ففي تلك اللحظة، لم يتجمّد الزمن والنشيد فقط. لم تُقتل أرواح فقط، بل كُسرت أعين كانت ترفع للسماء دعاءً في أمان، وهُشمت قلوب كانت تحمل في ضلوعها آخر ما تبقّى من طمأنينة الإنسان في بلاده.

في هذه المادة أهملت عامداً العامل الخارجي، فالتصدي لهذا التحدي له مقام آخر وهو في حقل آخر تماما، يختلف عما أنا بصدد الحديث عنه هنا. فهذه الجريمة، ليست مجرد رقم جديد في سجل العنف السوري، بل صفعة تُذكّرنا مرّة أخرى أن بناء الدولة ليس أمراً إدارياً، بل فعل أخلاقي قبل كل شيء. فلا يمكن لوطن أن يُبنى على أنقاض الألم إذا لم يُحط ضحاياه بالكرامة، وإذا لم يشعر الناجون بأن ما حدث لن يُعاد.

في حيّ الدويلعة الشعبي، سقط دمٌ سوري فقط، ولو كنا في بلد طبيعي، كان الأجدر عدم السؤال عن الطائفة. من أجل هذا الدم، ومن أجل دماء سفكت في ظروف مشابهة في الفترة الأخيرة، ومن أجل مئات آلاف الضحايا ممن سقطوا خلال 14 عاماً، يجب أن تُعاد صياغة العقد السوري. عقدٌ لا يُشعِر أحداً أنه غريب في بيته، ولا يُقتل أحدٌ لأنه صلّى في كنيسة أو مسجد. ما لم نواجه هذه اللحظة بما تستحق من وعي ومسؤولية، فسنخسر ليس فقط من قُتلوا، بل سنخسر كل ما نحاول بناءه من جديد.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى