من سيدفع “الفاتورة السياسية”؟

محمد أبو رمان

في خطوةٍ بدت أقرب إلى مغامرة سياسية وعسكرية كبرى، أقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على توجيه ضربة مباشرة للبرنامج النووي الإيراني، استهدفت علماء وقيادات عسكرية رفيعة. وبرغم إقراره علناً بأن إيران سترد، وأن ثمّة “أثماناً” ستُدفع، مضى نتنياهو في تنفيذ الضربة منفرداً، من دون غطاء أميركي مباشر، ومن دون انتظار نتائج المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن.

ما الذي يدفع نتنياهو إلى هذا الحد؟ ولماذا قرّر أن يتحرّك سريعاً، حتى قبل أن يتضح الموقف الأميركي النهائي من المسار الدبلوماسي؟… ثلاثة محدّدات كبرى تُسلّط الضوء على خطورة هذه المغامرة: أولاً، أن الولايات المتحدة، بالرغم من تأييدها السياسي، اختارت أن تنأى بنفسها عسكريّاً عن العملية. لم تنضم للضربة، ولم تكن جزءاً من “الحرب الصاروخية والجوية” الجارية. تجاهل نتنياهو ذلك، وفضّل عدم الانتظار أياماً قليلة، ربما تغيّر فيها واشنطن موقفها أو تدخل على خط الضربة الأولى، وهو ما كان سيُضاعف من نتائج العملية وقدرتها على شلّ البرنامج النووي الإيراني فعليّاً.

ثانياً، لا يشبه الردّ الإيراني أي جولة سابقة من المواجهة، فإيران تملك اليوم قدرة صاروخية نوعية، تمكّنها من ضرب العمق الإسرائيلي والتأثير المباشر في المدن والسكان. والقيادة الإيرانية لا تملك ترف التراجع، إذ سيقوّض عدم الرد القوي ما تبقى من شرعية “نظام ولاية الفقيه”، داخليّاً وإقليميّاً، ويضعه في مهب الانهيار الرمزي وربما السياسي.

ثالثاً، تعاني إسرائيل من إنهاك واضح منذ عملية طوفان الأقصى التي فتحت عليها جبهات متعدّدة وغير مسبوقة. في الداخل، تتفاقم الخلافات السياسية، وتتصاعد التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية. تبدو قدرة إسرائيل على تحمّل كلفة المواجهة المفتوحة مع إيران، في هذا التوقيت بالذات، محدودة بالمقارنة مع حجم المخاطر.

مع ذلك، مضى نتنياهو في الضربة. السبب المعلن امتلاك إسرائيل معلومات استخبارية تؤكد تسارع إيران في تخصيب اليورانيوم واقترابها من تصنيع أسلحة نووية. وحتى مع هذا التقدير، كان بالإمكان محاولة إقناع الإدارة الأميركية بالمشاركة لضمان ضربة حاسمة تقلّص هامش الردّ الإيراني، إلا أن نتنياهو اختار طريقاً منفرداً، على ما يبدو، خشية أن تنجح المفاوضات الأميركية – الإيرانية، وتمنح طهران الوقت والخبرة، فتبقى دولة قوية تمتلك المعرفة النووية وموقعاً إقليميّاً مؤثراً. حتى دونالد ترامب، الذي أبدى “مباركة ضمنية” للضربة، أبقى نفسه في الخلفية. فضّل أن يراقب النتيجة: فإن نجح نتنياهو في إخضاع إيران، فسيسارع للقول إنه كان داعماً له، وإن فشل، فسيحمّله المسؤولية، ويتدخّل لاحقاً لحماية إسرائيل، وهو سلوك ينسجم تماماً مع نمط شخصية ترامب.

ولكنّ البعد الأخطر لما يجري يتعدّى اللحظة العسكرية، فنتنياهو واليمين الإسرائيلي يتبنيان اليوم منظوراً جديداً للأمن القومي، يقوم على الهيمنة الإقليمية لا الردع، وعلى استثمار “7 أكتوبر” باعتباره فرصةً استراتيجيةً لإعادة تشكيل قواعد اللعبة في المنطقة، وصولاً إلى ما يسمّيه نتنياهو نفسه “تغيير وجه الشرق الأوسط”.

ضمن هذا المنظور، يسعى نتنياهو إلى حسم ملف الدولة الفلسطينية، وإنهاء حلم الضفة الغربية والقدس، وتصفية “محور المقاومة” بعد تفكيكه، وتحجيم أدواره. يرى أن كل الأعداء سقطوا أو جرى تحييدهم، ولم يبقَ سوى طهران. ضربة قاصمة، كما يراها، قد تقلب النظام في إيران، أو تفتح الباب لتفكيك داخلي. طموحٌ يبدو أنه تغذّيه ثقة مفرطة بعد ما يراه انتصاراً في غزّة، وتحلل الغطاء العربي، وتراجع الردع الإقليمي.

لكن، هل تستطيع إسرائيل دفع ثمن هذه المغامرة العسكرية الكبيرة؟ الجواب رهن بما تحمله هذه الحرب المختلفة (عما شهدته إسرائيل من حروب سابقة) وتتكشّف ملامح الفاتورة السياسية والأمنية لهذا التصعيد غير المسبوق.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى