عندما أطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته للسلام الإسرائيلي – الفلسطيني في كانون الثاني/يناير، حضر ممثلون عن ثلاث دول خليجية حفل الكشف عن الخطة: البحرين وعُمان والإمارات. وأشار حضورهم إلى تأييد ضمني على الأقل للخطة، وكان الأمر جديراً بالاهتمام بشكل أكبر نظراً لغياب مصر والأردن، البلدان الوحيدان اللذان عقدا معاهدات سلام مع إسرائيل حتى ذلك الوقت. وفي الأسبوع الماضي، رفعت الإمارات الرهان من خلال موافقتها على خارطة طريق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، الأمر الذي أحدث ضجة في جميع أنحاء المنطقة ووضع العديد من دول الخليج في موقف دقيق وحساس.
الإمارات تولي الأولوية لمصالحها
خلال العقود السابقة، كان التطبيع بمثابة جزرة لإسرائيل إذا ما أبرمت سلاماً مع الفلسطينيين؛ وكانت العزلة هي العصا المقابلة. وحيث توقعت الإمارات أن يتعرض اتفاق التطبيع الجديد لانتقادات شديدة من المعسكرات المؤيدة لفلسطين، فهي تدّعي أنها اتخذت القرار لدعم القضية الفلسطينية – وتحديداً من خلال حمل إسرائيل على الموافقة على تجميد خطط ضم [أجزاء من] الضفة الغربية. وأشار وزير الدولة [للشؤون الخارجية] أنور قرقاش إلى أن الاتفاق “سيحافظ على فرص حل الدولتين”، في حين وصف وزير الخارجية عبدالله بن زايد تجميد الضمّ بأنه “انفراج كبير في العلاقات العربية-الإسرائيلية”. وتتماشى مثل هذه التصريحات مع الادعاء الإماراتي الطويل الأمد بأن الضمّ هو خط أحمر.
ومع ذلك، فإن العديد من أولئك الذين يتفقون على أن الضمّ هو خط أحمر يعتبرون التطبيع أيضاً خطاً أحمر. لذلك، يعتقد القليلون أن التهديد الذي يطرحه الضمّ كان المحرك الرئيسي وراء منطق الإمارات. حتى أن متحدثاً باسم “السلطة الفلسطينية” اتهم أبوظبي بـ “تنفيذ التطبيع تحت غطاء دعم القضية الفلسطينية”. ومهما كانت درجة تعاطف الإمارات مع هذه القضية، فقد منحت الحكومة الأولوية لمصالحها الاستراتيجية من خلال تفضيل تعزيز علاقاتها مع إسرائيل على الحفاظ على المظاهر فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ووفقاً للجيل الأكبر سناً من القادة الخليجيين – الممثلين حالياً بعاهل السعودية الملك سلمان وأمير الكويت الشيخ الصباح، وسابقاً بأمير الإمارات الشيخ زايد حتى وفاته في عام 2004 – فإن عزل إسرائيل دفاعاً عن الفلسطينيين يجب أن يفوق أي فائدة قد تنتج عن التحالف مع إسرائيل. ومع ذلك، أظهر ولي العهد الإماراتي والحاكم الفعلي محمد بن زايد مراراً وتكراراً أنه على استعداد للتخلي عن الخرائط التي رسمها الحرس القديم وتحديد مسار جديد.
ومن وجهة نظره، فإن توطيد العلاقة مع إسرائيل مفيداً لأن الدولتين الصغيرتين تتشاركان في الكثير من الأمور، بدءاً من اهتمامهما بالأمن والتكنولوجيا وصولاً إلى نظرتهما المتشابهة إزاء التهديدات المحدقة بالمنطقة. كما تجمعهما محاربة الإرهاب الإسلامي، وتتفقان على التهديد الذي تشكله إيران. وقد يسمح التطبيع لهما بتشكيل تكتل إقليمي أكثر تماسكاً بشأن السياسة حيال إيران – وهو خيار ربما يساعدهما في معارضة «خطة العمل الشاملة المشتركة» لعام 2015 بحزم أكبر. (على وجه الخصوص، سيتعين على [المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية] جو بايدن التعامل مع كتلة المعارضة الوليدة هذه إذا فاز بمنصب الرئيس وقرر إعادة الولايات المتحدة إلى الامتثال للاتفاق النووي الإيراني). وقد يعود التطبيع أيضاً بفوائد اقتصادية على الإمارات، وهي الفوائد التي لطالما كانت جذابة نظراً للصعوبات الاقتصادية المستمرة التي تواجهها البلاد، لكنها أصبحت بالغة الأهمية اليوم بسبب وباء فيروس كورونا الذي أثّر بشدة على الإمارات.
وربما كان المحفّز الأخر هو الوعد بإدخال تحديثات عسكرية. وكما أشار السفير دينيس روس في صحيفة “واشنطن بوست”، فإن “السلام الرسمي سيتيح لـ [الإمارات] إمكانية الوصول إلى الأسلحة الأمريكية التي كانت محظورة عليها سابقاً، مثل الطائرات المتطوّرة بدون طيار. وحتى الآن تم رفض منحها هذه الأسلحة بسبب التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل”. ويتماشى ذلك بشكل مباشر مع رغبة الشيخ محمد بن زايد في بناء مثل هذه القدرات – على الرغم من أن ذلك سيلفت أيضاً انتباه الكونغرس الأمريكي، الذي عارضت جماعات منه مبيعات أسلحة معينة من قبل إدارة ترامب لدول الخليج. وقد يثير ذلك أيضاً ضجة في إسرائيل التي لديها اعتراضات طويلة الأمد على بيع طائرات مقاتلة من طراز “أف-35” إلى الإمارات.
ردود الفعل في المنطقة: الصمت والتأييد
إن رد الخليج على الاتفاق متبايناً حتى الآن. ففي أوساط الإماراتيين، تشير الأحاديث المتناقلة إلى أن معظمهم سيؤيدون تدريجياً هذه السياسة. أما الجيل الأصغر سناً، فهو أقل تصميماً بشأن القضية الفلسطينية، وحتى المعلقين الأكبر سناً الذين عارضوا التطبيع في التغريدات التي ظهرت مجدداً بدأوا أساساً في إطلاق نبرة جديدة. وفي كافة الأحوال، فإن جميع المقيمين في الإمارات – بمن فيهم الفلسطينيون – مقيّدون في الانتقادات التي يمكنهم توجيهها علناً.
وكان أسرع رد في المنطقة هو بيان داعم من البحرين، الذي وصف الإعلان بأنه خطوة تاريخية. ولم يأتي ذلك كمفاجأة، فبالإضافة إلى انضمامها إلى حفل إطلاق خطة السلام الأمريكية في كانون الثاني/يناير، استضافت البحرين قمة اقتصادية في صيف 2019 حضرها مسؤولون إسرائيليون. وتنبثق وجهة نظر المنامة من تخوّفها من المساعي الإيرانية لتقديم مساعدات فتاكة لعناصر متشددة من المعارضة الشيعية البحرينية.
ومن جهتها، أصدرت سلطنة عُمان بيان دعم للاتفاق أيضاً. ولطالما أيدت مسقط إقامة علاقات أفضل مع إسرائيل، كما أظهرت استضافتها لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في عام 2018. لكنها تحافظ أيضاً على علاقات ودية مع إيران في إطار سياستها الحيادية.
والتزمت الكويت وقطر والسعودية، الصمت رسمياً بشأن الإعلان. وعلى الرغم من قيام الكويت بطرد الفلسطينيين لدعمهم غزو صدام حسين للبلاد عام 1990، إلّا أن الأمير صباح دافع بقوة عن قضيتهم طوال ستة عقود من حياته السياسية. فكوزير للخارجية، دعم “حركة عدم الانحياز”، وهي مجموعة من الدول النامية التي تنتقد على الدوام الاحتلال الإسرائيلي وتصفه بأنه القضية الرئيسية بالنسبة للفلسطينيين. وحتى هذا اليوم، غالباً ما يدلي الممثلون الكويتيون في اجتماعات “حركة عدم الانحياز” بتعليقات لاذعة حول اللامبالاة الإسرائيلية المتصوّرة لمعاناة الفلسطينيين.
إن الاتفاق الإماراتي يضع قطر في موقف صعب أيضاً – ويعود ذلك جزئياً لأنها تفضل التحوّط في علاقاتها مع إسرائيل و«حماس»، وكذلك لأن علاقاتها مع الإمارات لا تزال عدائية. وقد تحدثت وكالات الأنباء المرتبطة بالحكومة القطرية عن الاتفاق على نطاق واسع، بما في ذلك معارضة شديدة له.
وقد يكون موقف السعودية هو الأكثر تضارباً على الإطلاق. فالتصريحات العلنية السابقة لولي العهد محمد بن سلمان تشير على ما يبدو إلى أنه قد يختار هو أيضاً التطبيع مع إسرائيل. ومع ذلك، فهو مقيّد من قبل والده الملك سلمان، الذي لا يزال ملتزماً بشكل صارم بشروط “مبادرة السلام العربية” لعام 2002 – أي “الأرض مقابل السلام” وحل الدولتين مقابل التطبيع العربي. وبدلاً من ذلك، كان ولي العهد مضطراً للإشارة إلى ليونة سعودية تجاه إسرائيل بطرق غير مباشرة ولكنها لا تزال فعالة، مثل مبادرات عن تسامح ديني، وإصدار تصريحات غير مسبوقة حول التوعية بـ “المحرقة”، وإرسال مسؤولين حكوميين لزيارة معسكر “أوشفيتز”. وقد تشعر الرياض بالقلق أيضاً من أن التطبيع الكامل قد يقوّض مطالبتها بالقيادة الإسلامية والوصاية على الحرمين الشريفين في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وهما مسألتان تطالب بهما إيران وتركيا على نحو متزايد. وبالفعل، سبق أن انتقدت أنقرة وطهران الاتفاق الإماراتي على أسس دينية، ووصفتا التطبيع بأنه خيانة وطعنة في ظهر كافة المسلمين.
ولعل الخطوة التي تعكس طريقة التفكير الرسمية في المملكة، هي مقال افتتاحي لكاتب بارز في صحيفة سعودية، قلّل فيه من أهمية قرار الإمارات منتقداً في الوقت نفسه “السلطة الفلسطينية” لعدم تحقيقها تقدماً في تلبية الاحتياجات الفلسطينية. وفي رأيه، فإن لكل دولة عربية الحق في إدارة شؤونها الخاصة، بما في ذلك علاقاتها مع إسرائيل، دون مساهمات الدول الأخرى أو الفلسطينيين.
من هي الدولة التالية؟
ستصبح خارطة الطريق للتطبيع أكثر وضوحاً خلال الأسابيع القليلة المقبلة، لكن إسرائيل والإمارات تظهران أساساً حرصهما على المضي قدماً في خطوات عملية مثل إنشاء روابط جوية وهاتفية مباشرة. ومن المتوقع أن تجري مراسم التوقيع في البيت الأبيض في أيلول/سبتمبر إلى جانب مجموعة من الاجتماعات الثنائية بين مسؤولين إسرائيليين وإماراتيين. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل ستنضم دول خليجية أخرى إلى الإمارات في قبول التطبيع في الوقت الحالي، أم ستتريث لترى تداعيات الاتفاق في المنطقة وعلى الصعيد الدولي؟
ومن المرجح أن أن تحذو البحرين حذو الإمارات على المدى القريب. وإذا أقدمت المنامة على هذه الخطوة، فقد تشعر عُمان أكثر ارتياحاً في الانضمام أيضاً – تماماً كما فعلت عندما تعهدت بإرسال سفيرها إلى الحفل الذي شهدته واشنطن في كانون الثاني/يناير، فقط بعد أن أكّدت الإمارات والبحرين إرسال ممثلين عنهما. غير أن سياسة السعودية قد لا تتغير قبل أن يتمّ تنصيب ولي العهد محمد بن سلمان ملكاً، ولكن حتى في ذلك الحين سيتعين عليه التعامل مع مسألة القيادة الدينية الدولية للرياض. أما قطر، فمن غير المرجح أن تؤيد خطوة الإمارات على المدى القريب. ومن جهتهم، يرغب العديد من المسؤولين الكويتيين أن يربطوا صراحةً أي خطوة محتملة نحو التطبيع بإحراز تقدّم على المسار الفلسطيني. غير أنه بغض النظر عن الإطار الزمني الدقيق للدول الأخرى، فإن خطوة الإمارات قد كسرت حظراً كان قائماً منذ فترة طويلة.
إلينا ديلوجر، هي زميلة أبحاث في “برنامج برنستاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة” في معهد واشنطن. وقد عملت في دولة الإمارات في الفترة 2011-2015 ومرة أخرى في 2017-2018.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى