
المواطنة تعني الانتماء إلى الوطن واعتبار هذا الانتماء هو المقياس الرئيس في تحديد الحقوق والواجبات داخل المجتمع أو إزاءه، وبالتالي فإن المواطنون وفق مفهوم الوطنية متساوون في الحقوق والواجبات، لا يفرق بينهم اختلاف أديانهم أو أعراقهم أو اختلاف جذورهم القبلية أو المناطقية..
وباعتبار أن “الحياة الجماعية” مظهر من مظاهر الاجتماع الإنساني لأن الإنسان بفطرته إجتماعي، فإن المواطنة في إحدى صورها تعبير عن إنسانية الإنسان لذلك لا يجوز أن يوجد إنسان فاقد للمواطنة، أي لا وطن له، ما يعتي إن انتزاع صفة المواطن، أي تجريد المواطن من مواطنته المعبر عنها قانونيا بالجنسية غير جائز، وهو يمثل عقوبة وتعتدي على إنسانية الإنسان، وبالتالي التعدي على كل إنسان في هذا المجتمع.
ومفهوم المواطنة يرتب على المجتمع والسلطة القائمة على إدارته حقوقا محددة من أهمها:
** توفير الظروف الضرورية لممارسة المواطن كل مواطن لحريته السياسية والاجتماعية والثقافية في إطار متناسق يوفر هذا الحرية لكل أفراد المجتمع.
** حمايته من كل عدوان يقع عليه ، بحيث يكون آمن على نفسه وحياته وماله ..
** توفير الظروف التي تؤهله من القيام بدوره في المجتمع من علم وعمل وسكن وصحة واطمئنان للمستقبل.
** توفير الظروف الذي تمكنه في بناء أسرته الخاصة التي هي عماد قيام المجتمع واستمراره.
** تمكينه من الحصول على حقه في ثروات المجتمع.
وفي هذا المقام يبرز سؤال عن إمكانية التمايز بين المواطنين في المجتمع الواحد، كأن يكون لبعضهم حقوقا لا تتوفر للآخرين.
لا شك هناك تمايز بين المواطنين في المجتمع الواحد، لكن هذا التمايز لا يقوم على اختلاف بسبب العرق أو الدين أو الجنس أو … وإنما يكون التمايز نتيجة الملكات والقدرات والاستعداد التي يتمايز فيها البشر:
** فقطاع الضعفاء في المجتمع يحتاجون لرعاية خاصة وحقوق خاصة، ويشمل هذا القطاع المعاقون على اختلاف اسباب: الاعاقة، الأطفال، كبار السن. الأسر المحرومة ممن يعولها، كما يشمل في مراحل معينة مناطق اصابها الاهمال لأسباب مختلفة أو اصابتها كوارث، أو تحيط بها ظروف قاسية وهناك حاجة لتنميتها.
** قطاع المتميزين الذين يملكون قدرات طبيعية أعلى مما يتوفر لقرنائهم، وهؤلاء من حقهم، ومن حق المجتمع، أن ينالوا اهتماما خاصا.
**التمايز الذي تتطلبه الأعمال والمهام المختلفة، ويكون التميز هنا تميزا بالامكانات العامة، وبالكفاءات التي تتطلبها هذه الأعمال، وهذا يعتبر من قبيل التمييز الطبيعي الذي يتطلبه اختلاف وتكامل اشكال العمل في المجتمع، واستعدادات وإمكانات أفراده على القيام بمتطلبات هذه الأعمال.
ومن المفترض أن يقوم الدستور الذي يمثل “العقد القانوني” الذي يجمع أبناء الوطن الواحد بصيانة هذه المواطنة وتنميتها.
إن أي تمييز يقوم على اختلاف العرق أو الدين أو المذهب أو الطائفة أو العشيرة أو المناطقية ، إنما يمثل انتقاصا لمعنى المواطنة، وتعديا على كل مواطن، وهذا يوجب على المواطنين جميعا التحرك والتصدي لهذا الاعتداء. وتهاون المواطنين في التصدي لهذا الانتقاص من شأنه أن يولد خلل حقيقيا في بنية المجتمع، يظهر على شكل “مظلوميات” قائمة على العرق أو الدين، أو الطائفة، أو المناطقية .. الخ. ومثل هذه المظلوميات تفتت وحدة المجتمع.
كذلك فإن أي تقصير من قبل ” السلطات الحاكمة” في توفير حقوق الحياة التي يفرضها مفهوم المواطني من “العلم، العمل، الصحة، السكن، الأسرة” من شأنه أن يوقع خللا شديدا من إحساس المواطن بالأمان داخل مجتمعه، وبالتالي يعيش القالق تجاه المستقبل، فيصبح غير قادر على التخطيط لأي مدى من مستقبله.
أما التقصير تجاه القطاع من المجتمع الذي يتطلب رعاية خاصة، فإنه يعبر عن الدرجة الحضارية التي وصل إليها المجتمع، أي أن المسألة هنا لا تخص فقط “السلطة القائمة” فحسب وإنما تنسحب على المجتمع كله. لأن اشكال الرعاية لهذا القطاع المحتاج لها متعددة جدا، وهناك ما يجب على كل مواطن القيام به إزاءهم.
وكمثال على ما ذهبنا إليهن فإن تشديد الباحثين على ضرورة وضع معادلة صحيحة بين مستوى الدخل وتكاليف الحياة في المجتمع فهذا جزء من توفير معاني المواطنة، فليس مقبولا ولا مفهوما ولا إنسانيا، إن تحدد أن الحد الأدنى لتكاليف الحياة لأسرة من أربعة اشخاص يفرض دخلا يعادل 1000 دولار، ثم نقبل أن يكون الحد الأدنى للأجور 100 أو 200 دولارا. إن هذا يعني أحد أمرين أو الأمرين معا:
** إما اللجوء الى بوابات الفساد في محاولة لردم الهوة بين الطرفين.
** أو اسقاط بعض ضرورات الحياة كالتعليم، أو الصحة، أو السكن المقبول، أو الغذاء الضروري، أو الدفع بالضعفاء في الأسرة إلى سوق العمل، أو سلوك سبل الجريمة…..إلخ.
ولأننا نتحدث هنا عن مسائل تخص الاقتصاد بآلياته المختلفة، والمتشعبة الارتباط داخليا وخارجيا، فإن وجود معادلة واضحة وثابتة ودورية، تراقب العلاقة بين هذا الحد الأدنى وبين مستوى الدخل يصبح من الضروريات.
مما يخالف حقوق المواطنة، وهي من مكونات حقوق الانسان، أن يكون المواطن، غير قادر على تعليم أطفاله، لأن التعليم يخضع لمعايير القطاع الخاص، والدخل المتوفر لا يغطي هذه التكاليف.
الأمر نفسه يصدق على الصحة والمرض والعلاج والدواء، وكذلك على العمل والسكن.
ومن الخطر والخطأ أن يحجم المواطن عن الزواج لأنه يفتقد القدرة على القيام بالأعباء اللازمة لبناء أسرة.
ومن الخطأ والخطر ان يمتنع الزوجين عن الانجاب بسبب أن دخل الاسرة لا يمكن من تغطية مصاريف الأطفال.
إن الأمثلة المشار إليها كلها لها شواهد في حياتنا وحياة الكثير من المجتمعات التي تعيش أزماتها.
ومن المهم هنا إدراك أن توفير هذه المعاني للمواطنة ليست من قبيل “المنة، أو المنحة” التي توفرها السلطات الحاكمة للمواطنينن، وإنما تنتمي الى معاني الحقوق للمواطن وللوطن، على الدولة، وعلى السلطات القائمة، وعلى المواطنين، كل فيما يخصه لتوفيرها والحفاظ عليها وتنميتها.
ومن المهم إدراك أن هذا المفهوم للمواطنة لا يرتبط، أو لم يعد يرتبط بطبيعة النظام القائم والايدولوجيا التي يرفعها أو يلتزم بها، كان يكون رأسماليا يتبع النظام الاقتصادي الحر، أو اشتراكيا يتبع نظم التخطيط والسيطرة الشاملة، أو بين هذه أو تلك من الاشتراكيات الديموقراطية. هذا المفهوم للمواطنة بات مرتبطا بإنسانية الإنسان وحقوقه، الذي يختزنه مفهوم المواطنة.
ومن المهم هنا إدراك دور توفر الحرية والعمل السياسي في المجتمع، ودور منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان في تنمية بيئة الوعي بهذه الحقوق، وبطرق المحافظة عليها، والدفاع عنها، وتنميتها.
حلب 26 / 5 / 2025