يقوم كل مجتمع -سواء كان صغيرًا أم كبيرًا- على رابطٍ اجتماعي رئيس متفَق عليه من قِبل أغلبية مواطنيه، ويعدّ بمنزلة الهوية لهذا المجتمع، إضافة إلى روابط فرعية أخرى، منها ما هي مفروضة عليه وأخرى مكتسبة (عائلية، طائفية، مذهبية، عشائرية، أيديولوجية، أفكار عقائدية)، هذه الروابط الرئيسية والفرعية تتغيّر تبعًا للأمكنة والأزمنة؛ ففي المجتمعات التقليدية، أي ما قبل الدولة الحديثة، نجد روابط العائلة والقبيلة والطائفة والدينية هي الرئيسة السائدة، أما في المجتمعات المعاصرة، فنجد روابط المواطنة والقانون هي الرئيسة السائدة، وروابط العائلة والقبيلة والطائفة والمذهبية فرعيةً متنحيةً عن النسق السياسي ومؤسسات الدولة.
أما بالنسبة إلى إشكالية غياب هوية رئيسة موحدة في سورية، فلا بد من عودة تاريخية ليست بالبعيدة، وبالتحديد إلى مرحلة الدولة العثمانية، للبحث في طبيعة الهوية السائدة في تلك المرحلة التاريخية، حيث نجد أنّ الرابط الديني الإسلامي هو الرابط الجامع الرئيس لأغلبية أفراد المجتمع، بل كان كل ما يجمعهم هو الشعور الديني الإسلامي، والدليل على ذلك أن السوريين لم يروا الأتراكَ أجانبَ أو محتلين، وإنما مسلمين يعيشون في دولة إسلامية واحدة، حكامها من العائلة العثمانية يحكمون الدولة بالرابط الإسلامي، كما كان الأمويون في الدولة الأموية وكذلك الدولة العباسية.. إلخ، وبعد تفكك الدولة الإسلامية العثمانية وظهور الدولة السورية، بحدودها السياسية استنادًا إلى اتفاقية (سايكس بيكو) عام 1916؛ ظهر الرابط القومي العربي من دون القطع مع الرابط الإسلامي، من خلال ما يسمى (الثورة العربية) التي قادها الشريف حسين كقائد مسلم عربي ضد الحكم العثماني، بالتحالف مع فرنسا وبريطانيا، حيث تأسست المملكة العربية السورية بقيادة الملك فيصل الأول عام 1920، دون الأخذ بالحسبان الخصائصَ الثقافية والديموغرافية للمواطنين الموجودين في هذا الكيان السياسي الوليد، والتي لم تستمر طويلًا، حيث قامت فرنسا بفرض انتدابها على سورية.
كانت أولى ملامح هوية سورية مركبة (الإسلام والعروبة)، ظهرت في المؤتمر السوري العام (1918 – 1920)، حيث الشعار الرئيس للمؤتمر كان (سورية للسوريين) ضمن دولة وطنية معاصرة، متماهية مع النمط الأوروبي للدولة الحديثة.
استمرت الهوية الوطنية السورية بالتبلور، في مرحلة الانتداب الفرنسي التي تجسدت بالثورة السورية الكبرى عام 1925، ببعدها الديمقراطي من خلال تأييد مبادئ الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان في الحرية والمساواة والإخاء، حيث أخذت تتشكل هوية سورية على مستوى الشعور بالخصوصية إلى جانب بروز هويات فرعية ذات بعد طائفي، استندت إليها فرنسا بالإعلان عن دول المشرق (دولة سورية في دمشق، دولة العلويين في اللاذقية، ودولة الدروز في السويداء ودولة حلب).
مع بداية الاستقلال، تبلورت الهوية الوطنية السورية ببعدها الإسلامي العربي بشكل واضح، من خلال قوى ليبرالية (حزب الشعب والكتلة الوطنية) من خلال التأسيس لدولة وطنية ديمقراطية تعددية، لكن الوقت لم يسعفها بالتجذر في المجتمع السوري، حتى بدأت سلسلة من الانقلابات العسكرية (1949-1954)، إضافة إلى بروز ثلاث هويات ذات طابع أيديولوجي عملت على تفكيكها، ابتداء بالهوية الإسلامية التي تستند إلى عقيدة الصراع الديني الحضاري العالمي، والهوية الاشتراكية ذات الصبغة الأممية، والهوية القومية العربية المستندة إلى مشروع قومي عربي تخيلي.
تجسد مشروع الهوية القومية العربية المتخيلة بانقلاب عسكري من ضباط البعث والناصريين عام 1963، وانفراد ضباط البعث بالسلطة فيما بعد، ووضع حزب البعث تصورًا تخيليًا لمفهوم الهوية العربية، هاربًا من كل ما هو وطني سوري وثقافة قيمية إسلامية متجذرة في وجدان معظم السوريين، واعتبر كل من يعارض تصوره القومي العروبي التخيلي للهوية العربية ليس بمواطن، ويحق للدولة إبعاده، كما جاء في المادة 11 من المبادئ العامة للحزب.
سادت الهوية القومية العربية في سورية، مقابل تنحي الهوية الوطنية السورية ببعدها الإسلامي، كشكل من أشكال الهروب من المستحقات الوطنية، وخاصة بانقلاب الأسد الأب عام 1970، إذ كرّس هوية قومية عربية متخيلة شكلية قسريًا على مجموع المواطنين، من خلال الانتساب إلى تنظيمات سياسية قسريًا (طلائع البعث، شبيبة الثورة، حزب البعث، التنظيمات الشعبية والنقابية الرديفة لحزب البعث)، وتمّ اختزال الهوية بالتنظيمات البعثية ذاتها، وفي الثمانينيات، اختُزلت بالأسد نفسه، بعد رفع شعار “سورية الأسد”، و”قائدنا للأبد حافظ الأسد”، في مؤسسات الدولة السورية كافة. وعلى أرض الواقع مَن لا يلتزم بهذه التنظيمات السياسية والنقابية يُعدّ مواطنًا من الدرجة الثانية، أو الثالثة، وليس هذا الأمر على المنتمين إلى قوميات أخرى (أكراد، تركمان، آشوريين، سريان.. إلخ) بل على السوريين كافة، وقد تجسد ذلك في اعتقال كل المعارضين السياسيين، تحت تهمة العداء لأهداف الثورة (انقلاب البعث 1963).
اضطر معظم السوريين إلى الانتساب إلى حزب البعث وتنظيماته الرديفة، خوفًا من التعامل معهم من قبل مؤسسات النظام كدرجة ثانية وثالثة، أو اعتقالهم بتهمة إضعاف الشعور القومي ووهن نفسية الأمة العربية؛ الأمر الذي خلق أزمة هوية لدى المواطن السوري، بين الخضوع لهذه الهوية القسرية من خلال انخراطه في هذه التنظيمات السياسية، إضافة إلى إنعاش وتكريس الهويات الفرعية الأخرى (العائلة، الطائفة، العشيرة، المنطقة الجغرافية.. إلخ) على أرض الواقع، وحتى ضمن آلية عمل مؤسسات النظام الحكومية والسياسية. وهذا يعود إلى فشل النظام السوري في تمثل أسس الدولة العصرية – الحديثة، الحاملة للحرية والعدالة والمساواة، وضمان المشاركة الشعبية، والمواطنة المتساوية بين الجميع في الحقوق والواجبات، بعيدًا عن انحيازيات النظام الطائفي غير المعلنة والمكرسة على أرض الواقع، والعداء الضمني للثقافة الإسلامية، ببعدها التراثي استنادًا إلى خلفية طائفية.
ردًا على هذه المنظومة السياسية الطائفية الاستبدادية، انطلقت الثورة السورية 2011 رافعة هوية وطنية سورية بامتياز في أشهرها الستة الأولى، وقد تجسدت في شعارات الحرية والكرامة والمواطنة، هوية سورية تسمو فوق كل الانتماءات الفئوية، حاول الشباب السوري بلورة هوية وطنية سورية جامعة للسوريين، من خلال شعاراتهم الرئيسية (ثورتنا: ثورة لكل السوريين) أو من خلال التسميات الوطنية الجامعة للسوريين كافة، التي أُطلقت على أيام الجُمع للتظاهرات السلمية. ولكنها لم تدم طويلًا حيث تمّت عسكرة الثورة، واندلعت الحرب في سورية، وبرزت الهويات الفرعية ذات البعد المذهبي الطائفي والجغرافي، المكرسة من قبل النظام، والمتجسدة بميليشيات عسكرية، سواء كان مصدرها النظام (صقور الجبل، جمعية البستان، “حزب الله” الشيعي اللبناني وميليشيات شيعية سورية وعراقية أخرى)، أم من التنظيمات السورية المعارضة المسلحة كـ (جيش الإسلام، أحرار الشام، جبهة النصرة، داعش.. إلخ).
في الوقت نفسه، لم تستطع المعارضة السياسية السورية أن تُقدّم خطابًا سياسيًا وطنيًا موحدًا للسوريين، يتضمن روابط الهوية السورية، ببعدها الإسلامي العربي الإنساني، الجامعة لكل السوريين بغض النظر عن (القومية، الديانة، الطائفة، الجغرافيا.. إلخ). لذلك سادت الهويات الفرعية المتمثلة بالدينية والمذهبية والمناطقية، والأيديولوجيا العقائدية.
تأسيسًا على ما تقدّم، وللخروج من إشكالية غياب هوية سورية جامعة لكل السوريين؛ لا بد من خطاب سياسي وطني من قبل المعارضة السورية، يعمل على إعادة النظر بمسألة (الهوية الثقافية والحضارية) للدولة السورية القادمة في المستقبل، والعمل على تثبيت وإبراز جميع ألوان الطيف الحضاري والثقافي في الهوية السورية، باعتبارها هويات فرعية وطنية لسورية التاريخية إضافة إلى الرابط الإسلامي والعربي الرئيس، إذ إن المواطنين في سورية هم سوريون، سواء كانوا عربًا أم غير ذلك، مسلمين أم غير ذلك.
هوية سورية منفتحة على جميع الثقافات السورية (قومية – دينية – جغرافية.. إلخ)، تأخذ منها وتعبّر عنها جميعًا، هوية بعيدة عن هيمنة أيّ قومية أو ديانة معينة، تقوم على التراث الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي أنتجته كافة الفئات الاجتماعية المؤسسة للبناء الاجتماعي السوري الذي تراكم عبر السنوات الطويلة، ودمجه على أساس التجربة المشتركة الإيجابية لكافة الفئات الاجتماعية المتنوعة قوميًا ودينيًا، وهذا لا يحصل إلا ضمن سياسات حكومية جديدة في المستقبل، تقوم على مبادئِ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وسيادةِ القانون وبناء المؤسسات، والابتعاد عن الفئوية الطائفية والمذهبية والجغرافية، ودمجِ مفاهيم الهوية الوطنية الجديدة في المناهج التعليمية، ووضعِ سياسات تساعد في رفع مستوى الاندماج الاجتماعي لكافة فئات المجتمع السوري. وفي الوقت نفسه إبراز التنوع الثقافي الديني القومي في التراث السوري، واعتباره مصدر إثراء لدعم مسيرة بناء الهوية السورية الحديثة.
المصدر: جيرون
تاريخ النشر 24 تشرين أول 2017