حول غياب العقل النقدي في رؤية التاريخ العربي

معقل زهور عدي 

بالنسبة لأمة يحتل التاريخ مكانًا مركزيًا في تفكيرها المعاصر، فان بقاءها أسيرة نظرة مقدسة للتاريخ يعني شل العقلانية في تفكيرها الراهن والمستقبلي أيضًا.

ومثل تلك النظرة، وان كانت لم تسلم من النقد خصوصا منذ نهاية القرن التاسع عشر، لكنها تمكنت من الابقاء على هيمنتها على العقل العربي، وظل نقدها بعيدا عن تفكيك عناصرها المتضافرة في تماسك كاف لبقائها حية وفاعلة بقوة في الحياة السياسية التي تلخص حالة المجتمع في زمن محدد.

مشكلة النقد السابق أنه اما أن يكون خجولا باهتا غير قادر على تحريض العقل العربي ودفعه للتحول عن مسلماته التقليدية، أو أنه غرق في الايديولوجيا بحيث فقد الطابع العلمي فأصبح أشبه بالعملة التي لاتملك الرصيد، وبالتالي أصبح سهلا ادارة الظهر له ورميه في أول فرصة.

وشرط النقد معرفة التاريخ معرفة مفصلة ومعمقة من مصادره الأصلية، وامتلاك قدر كاف من الحيادية والموضوعية العلمية أمام وقائعه، فالحقيقة ينبغي أن تكون الهدف في كل حين، وكل فكرة مسبقة ستكون عائقا أمام البحث وفهم الأحداث في ترابطها وانبساطها المتعرج عبر التاريخ.

وما ينبغي ادراكه أنه ليس من العيب أن تاريخنا يحوي الكثير من الحوادث المؤسفة، والقسوة ، وسفك الدماء ، وغير ذلك  مما قد يخجل منه المرء, فهو يحتوي أيضا الكثير من الصفحات المشرقة الناصعة في امتداده لألف وأربعمئة عام , وهي مدة طويلة بما يكفي لتضم كل أنواع الشرور التي يتصورها العقل , وليس تاريخ الأمم الأخرى أكثر براءة , بل لو وضعت كل الارتكابات الدموية التي لايقبلها عقل ولادين على مدى التاريخ العربي بكفة ووضعت محاكم التفتيش الاسبانية في الكفة الأخرى لبدت الأولى مجرد هفوات لاوزن لها , وحتى الأمس القريب نجد أن أعرق الأمم المتحضرة تخوض حروبا يستخدم فيها الجميع دون استثناء أسوأ الممارسات الوحشية والأسلحة الفتاكة , ففي نهاية الحرب العالمية الثانية ومن أجل دفع المانيا للاستسلام تم تدمير مدن بكاملها فوق رؤوس الرجال والنساء والأطفال بما في ذلك برلين التي اغتصبت فيها مئات الآلاف من النساء على يد الجيش العقائدي الأحمر , وجيوش الحلفاء الذين كانوا يقاتلون في سبيل الانسانية . وبالطبع فان ما فعلته النازية لم يكن أقل سوءا ووحشية.

ومن ناحيتنا فان تقديس التاريخ لن يسفر عن محو ما ارتكب فيه من مخاز وشرور، لكنه سيلقي ظلالا من عدم اليقين على أفضل الصفحات فيه، وهكذا نكون قد أسأنا لتاريخنا حين عمدنا لتكريس نظرة مزيفة له مهما كان القصد.

والتاريخ ليس الدين، ولاينبغي أن يكون كذلك، وأفضل ما نفعله هو أن نفصل بينهما، فننظر للتاريخ باعتباره فعلا انسانيا وليس تجليا للدين، وبالتالي فلايمكن تصور اجبار التاريخ المعاصر على العودة لشروط التاريخ القديم، فاذا كنا نرغب أن نكون مخلصين للدين فعلينا أن نعيد فهم الدين في تاريخنا المعاصر.

وعلى سبيل المثال فكل ما يتعلق بالرق من أحكام لم يعد بالامكان تصور دور له في عصرنا الحالي بعد أن تجاوزت البشرية تلك المرحلة وتوصلت منذ زمن لتحريم الرق.

يكفي بالنسبة لنا أن الاسلام حين لم يتمكن – بسبب طبيعة المرحلة التاريخية – من تحريم الرق فقد شجع باستمرار على تحرير الأرقاء، وطلب معاملتهم بروح الأخوة الانسانية وذلك مثبت في القرآن والسنة.

أما الاعتقاد بأن الرق جائز لمجرد عدم تحريمه في تلك المرحلة بل والانطلاق من ذلك لممارسة الرق فذلك هو بالضبط ماقصدته من اجبار التاريخ المعاصر على العودة لشروط التاريخ القديم، وهو سقوط مدو للعقلانية نحو قاع سحيق.

ومثل ذلك يمكن قوله حول مفهوم أهل الذمة، ففي تاريخنا المعاصر لم يعد ثمة وجود لذلك المفهوم مثلما أنه لم يعد ثمة وجود لأحكام الرق.

فالعالم يعيش اليوم ضمن مفهوم المواطنة التي تشمل جميع الأديان في أي بلد، والمواطنون متساوون في الحقوق والواجبات أمام الدولة، وذلك ليس حال بعض الدول، بل هوصفة لازمة لطبيعة تاريخنا المعاصر.

لذا فمن المنطقي أن ننظر لمفهوم أهل الذمة ولكل ما تعلق به من أحكام نظرة تاريخية مثل نظرتنا لمفهوم الرق وأحكامه.

وللأسف فان رجلا مثل الخليفة عمر بن عبد العزيز استطاع أن ينظر بعقلانية نفتقدها اليوم في التيار الاسلامي المحافظ وذلك فيما يتعلق بالموقف من أعمال من سبقه من خلفاء بني أمية، وهم أهله وأبناء عمه، ونجد في حواره مع وفد الخوارج الذي جاء اليه نظرة نقدية عاقلة لبني أمية، فهو لم يوافق على سبهم والتبرىء منهم، لكنه سمى ما قاموا به بالمظالم، ولم يكتف بذلك بل كان ملتزما بازالتها بالفعل وليس بالقول فقط.

ومن المفارقات أن التيار الاسلامي المحافظ اليوم وفي هذا العصر يتحرج من أن يقف موقف عمر بن عبد العزيز، بل ويجتهد في البحث عن التبريرات لتلك المرحلة التاريخية، وما انتقده عمر بن عبد العزيز بحق كان الجانب المظلم من تلك المرحلة، أما الجانب المضيء فهو بناء الدولة العربية لأول مرة في التاريخ.

ليس المطلوب أن ننخلع من تاريخنا، كما يقترح البعض، وليس مقبولا تسويده وادانته بالجملة كما يفعل اليوم آخرون، لكن ما هو مرفوض أيضا أن نستبدل الحقائق التاريخية بصور زاهية من صنع الخيال، ثم أن نقدس تلك الصور، فذلك يعني أننا لانريد أن نرى الحقائق، ونفضل أن نبقى في أسر الوهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى