مادامت حركة التاريخ الإنساني تأسست على الصراع وتحولاته ، وما قد يفرضه في هذا العصر من تغيرات نوعية وكمية مذهلة ، فإن منظومات القيم والمفاهيم تتغير تبعاً للتحولات التي تلقي بظلالها على علاقات البشر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية .. وتؤدي إلى تغيير زاوية النظر عن مفاهيم كانت سائدة ، والتحول نحو مفاهيم جديدة أو مفاهيم موجودة لكنها لم تكن متداولة قبلاً..
وفي حُمّى الصراعات البشرية الخفية والعلنية ، ومع تصاعد الصراعات الدولية وتنافس القوى الدولية الكبرى على مناطق النفوذ في العالم وإخضاع الدول الضعيفة أو المهزومة لتبعيتها ، وفي ظل الصراعات البينية بين الدول المتجاورة على الحدود أو الصراعات بين القوى والمكونات الداخلية في الدولة على السلطة ، أو الصراعات الداخلية البنيوية الإثنية والمذهبية في إطار ما بات يعرف بالمظلومية الاجتماعية والسياسية .. في ظل كل ذلك تتبدل مفاهيم أو مقاييس الوطن والمواطن والهوية الوطنية والمواطنة … تبعا للمتغيرات في طبيعة الدولة وأنظمة الحكم ومستوى الوعي المجتمعي فيها ، وفيما إذا كان الحكم في الدولة دكتاتورياً أم ديمقراطياً..
وإذا كان الوطن كيان سياسي في إطار جغرافي محدد ، فإن انتماء المواطن للوطن وفق رؤية القانون تقوم على أنه يتمتع بحقوق مدنية وسياسية ويخضع لواجبات تجاه المجتمع ، وله حق المساهمة في الحياة العامة .. لكن الانتماء لوطن ليس مجرد ارتباط بأرض للإقامة أو مصدراً للعيش واستمرار الحياة ، وإنما فوق ذلك كله إحساس المرء بحريته وكرامته وانسانيته في وطنه ..
ولقد أضحى الحديث عن الوطنية اليوم يطغى على عناوين الصحف وفي وسائل التواصل الاجتماعي ويتداول على ألسنة كثير من السياسيين والكتاب في بلادنا كنتيجة من نتائج الشعور بالنقص تجاه المسألة الوطنية وعدم تجذرها في عمق تفكيرنا ، بحيث أن مواطني دولنا لم يستطيعوا الى الٱن أن يهضموا نتائج مخرجات الحرب العالمية الأولى في تصنيع دولهم وفقا لسايكس بيكو وتقسيماتها حيث لم تتطابق في ذهنية شعوبنا وجود الدولة الجديدة مع مفهوم الدولة / الأمة ، ولم يترسخ في وجدانهم انتمائهم لوطنهم كوطن نهائي لهم.. وهذا هو الفرق بين دولنا والدول الأخرى التي اكتمل لدى شعوبها انتمائها الوطني / القومي ، إذ يعتبر مجرد تذكير المواطن في تلك الدول بوطنيته قد يؤدي الى إحداث رد فعل عكسي له باعتبار هذا التذكير بمثابة إهانة واتهام بنفي ارتباطه بوطنه ، فوطنيته ليست محل للتعاطي أو التداول ، وهي موجودة عمليا في السلوك الطبيعي للمواطنين ، بينما في بلادنا فإن نفي الوطنية عن شخص يندرج تحت تهمة الخيانة العظمى ..
وفي الأنظمة الاستبدادية التي يتزعمها الحكم الفردي ، يتم اختصار الوطن بزعيم الوطن ، وتتحدد وجود الوطنية وانعدامها بالولاء أو عدم الولاء له .. إذ كثيراً ما يتم وضع معايير للوطنية خاصة بالسلطة الحاكمة ، وتستخدمها كمقياس لمدى اعتبار المواطن وطنيا صالحاً أو خائناً ، كما تتكئ السلطة على الوطنية للتفرقة بين الجماعات والأحزاب والأقليات التي تؤيدها أو تعارضها ، واعتبار من يؤيدها مواطنين صالحين ، ومن يعارضها عملاء وخونة أيضاً .. ومن هنا فإن الأنظمة الدكتاتورية تستخدم تعبير الوطنية كضرورة من الضرورات اللازمة للإقصاء والاستقطاب والتناحر بين أفراد وقوى المجتمع السياسية والاجتماعية وحتى الثقافية .. وفي هذا السبيل تلجأ الدكتاتوريات الى تقسيم المجتمع الى أفراد أو قوى وأحزاب مؤيدة لها تحظى بالمناصب والامتيازات والمنح والهبات ، وقوى وأحزاب وأفراد خونة يحظون بالملاحقات والاعتقالات التي قد تصل الى التصفيات ….
وبهذا الاتجاه يجب على المواطن حتى يكون مواطناً في دول الاستبداد أن تتجسد فيه روح القطيع ، والخضوع المستمر للأوامر ، والانصياع لمهرجانات السلطة واحتفالاتها والانتظام في مسيراتها ، وأن يقتنع بأن هزائمها انتصار ما دامت لم تؤدي إلى زوالها ، فعنوان المواطن الصالح أن يكون مستلبا في مشاعره تجاه حاكميه ، وأن يكون مجرد رقم لا حول ولا رأي له ، وممنوع عليه الحياد ، وخائن إذا انتقد أو عارض ، فالسلطة منزهة لا يأتيها الباطل أبداً ، وهي تتحمل عبء التفكير عن المواطن في تدبير شؤون الوطن ، وبالمقابل على المواطن أن يكون في حالة استنفار دائمة وأن ينتظر أوامر السلطة وخطاباتها ويبجل قراراتها وان يستجيب بطواعية وخضوع لانتخابها وانتخاب الهيئات التي تمثلها ، وعليه أن يفهم ويقتنع في أعماق نفسه بأن لا حقوق له وعليه كل الواجبات …
هذه الوضعية الاستلابية للمواطن في أنظمة الاستبداد تفقده الإحساس بهويته الوطنية ، وتفقده الولاء لوطنه ، والانتماء لمجتمعه ، وتصبح الهويات ما قبل الوطنية من قبلية وعشائرية وجهوية ومناطقية وإقوامية المتصادمة فيما بينها الملاذ الٱمن للشخص في الدفاع عن ذاته ، والحصن الذي يتحصن به بمواجهة الهويات المتعددة والمتناحرة بفعل السلطة ، بما يؤدي إلى تهتك النسيج المجتمعي في الدولة ، وافتقاد الهوية الوطنية الجامعة ..
وإذا كان للهوية الوطنية دوراً محوريا في تقدم الدول ونموها ، وتحقيق أمنها واستقرارها ، والركيزة الأساسية التي ينطلق منها المرء في انتمائه لدولة أو أمة ما ، وهي المحرك الذي يدفع الفرد إلى تقديم كل ما يستطيع من أجل وطنه ؛ بما في ذلك استعداده للتضحية حتى بنفسه ، رفعة له وحماية لمكتسباته ، فإن إشكالية الهوية تتبدى بقوة في ظل العولمة واتساع ظاهرة الاتصالات ووسائلها المعولمة التي يراد منها طمس الهويات الوطنية وإخضاعها لقيم وسلوك المجتمعات الاستهلاكية وإغراقها بالتبعية لهذه المجتمعات إلا إذا استطاعت الهوية الوطنية الأصيلة الاغتناء بظاهرة العولمة في إغناء الهوية الوطنية بثقافات تطور وتعمق في مفهومها وتدفع الى وحدة مجتمعها ، بما يعطيها التمايز والوحدة بٱن معاً ..
ويرتبط غياب الهوية الوطنية الجامعة ، بفقدان حق المواطنة في الدولة والمجتمع ، ويؤدي انعدامها إلى تكاثر الهويات والولاءات ، وانتشار الإحساس بالمظلومية من الأقلية تجاه الأكثرية ، ويتراكم هذا الإحساس ويتفاعل بتفاعل الصراعات الداخلية غير المُعلَنة الى اللحظة التي تنفجر فيها وتقود الى حروب داخلية مُعلَنَةً ، قد تتطور إلى حروب أهلية مدمرة تضع الدولة أمام خيارات الانقسام المجتمعي مقدمة الى تقسيم الدولة إلى دول ودويلات ، لن يكون انقسامها وتجزئتها حلا للأزمات المتراكمة الناتجة عن غياب المواطنة والهوية الوطنية الجامعة ، وإنما ستستمر عوامل الصدام وحالة التناحر والحروب البينية حول الحدود ، والتوزع السكاني وإشكالياته ، والموارد واقتسامها ، والمنافذ البرية والبحرية وإدارتها …. وستبقى كل الحلول لأزمة الهويات مرتبطة بتكريس حقوق المواطنة المتساوية ، ذلك لأن معيارها الأساسي الانتماء إلى وطن تسوده علاقات مبنية على احترام الحقوق والالتزام بالواجبات ووجود حياة اجتماعية وجماعية قائمة على روابط تشريعية وسياسية وثقافية وإنسانية . وقائمة على قيم جمعية تتطور بتطور المجتمعات ووعيها بحقوقها ، وبدرجة تطور الإنسان وسعيه نحو مزيد من الحرية والمساواة والكرامة من أجل تحقيق إنسانيته واحترام وجوده .
لكن المواطنة لا تأتي مقطوعة السياق ، كما لا تأتي عفوا بدون إرهاصات الوعي بأهميتها في كيان الدولة والمجتمع ، إذ لا يكفي أن تنص الدساتير والقوانين على المواطنة حتى تصبح نافذة التطبيق وقيمة متداولة بين المواطنين ، ولا بد من إحداث تغيير سياسي في الدولة يرتكز على قواعد ومعايير الديمقراطية التداولية ، بالتزامن مع وجود النص الدستوري والقانوني المشرعن لها ، فالديمقراطية بمثابة قلب للأرض الاجتماعية من أجل انبثاق المواطنة وازدهارها …
والمواطنة في جوهرها تعبير عن هوية مشتركة (الجنسية) ، وتعتبر الجنسية العنصر الأساسي في تعيين الهوية المشتركة بين المواطنين ، والرباط القانوني الذي يصل الشخص (المواطن) بموطنه ومجموع المواطنين ، كما تعبر المواطنة عن الانتماء إلى الوطن / الدولة ، وهي تتيح للمواطن أن يَنتخب ويُنتخب ويمارس حقه في اختيار ممثليه ومحاسبتهم ، كما تعبر أيضا عن هوية ثقافية ، وعن تاريخ مشترك ، والتشارك في الذاكرة ضمن المحطات المؤثرة في التاريخ الوطني أو الأمجاد التي سجلها التاريخ .
هذه الهوية الثقافية والمعرفية المشتركة يجب أن تقود الى إعادة النظر في مفهوم الأكثرية والأقلية .. فالأكثرية ليست أمتيازاً يعطيها المشروعية في إقصاء الأقلية ، والأقلية لا يجوز لها أن تستخدم الوسائل غير المشروعة للوصول الى السلطة واضطهاد الأكثرية ، أو فرض سلطة على السلطة الكلية للدولة في جزء من الدولة بزعم أنها تشكل أغلبية في هذا الجزء ، مما يشكل إنهاء لمفهوم المواطنة التي تستوعب التعدد والتنوع في وحدة الدولة ، فالأصل لا يقوم على انتساب المواطن للأكثرية أو الأقلية ، وإنما على أساس وجوده كمواطن في الدولة , إذ أن المواطنة تعتبر شاملة لكل الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ، ومتكاملة غير قابلة للتجزئة ولا تقبل أولوية تفضيلة لحق على ٱخر ، وإنسانية ومتساوية وفقا لمعايير حقوق الإنسان وتشمل الجميع ولا تقبل التمييز بسبب العرق او الدين او المعتقد او الاختلاف الطائفي والمذهبي والاثني .. وتعتبر حقوق المواطنين في دولة المواطنة واجبات على الدولة ، وحقوق الدولة التي ينظمها الدستور واجبات على المواطنين ، وهي البديل الموضوعي العملي لمسألة حل أزمة ” الهويات ” والتمترس حول الانتماءات الإقوامية أو الدينية الضيقة .
فالمواطنة تبعا لكل ذلك تحقيق للقيم الإيجابية المرتبطة بكافة الحقوق اللازمة لممارسة الحرية والمساواة والعدالة في إطار دولة الحق والقانون مع الالتزام بالواجبات التي تهدف إلى تحقيق المنفعة العامة والمشاركة والمساهمة في كافة أوجه النشاطات العامة وميادين العمل العام .
664 6 دقائق