بتوقيع الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والاسرائيليون قد حققوا اختراقا حاسما وخطيرا في الجبهة العربية، وخصوصا على مستوى دول مجلس التعاون.
وليس مرد هذا الاختراق مجرد إقامة العلاقة مع الكيان الاسرائيلي. أو نقل العلاقات من مستوى أدنى، أو غير رسمي، أو سري، إلى المستوى العلني الرسمي فحسب، وإنما لأن هذه العلاقة التي تتجه سريعا إلى ” معاهدة سلام”، اعتبرت وفق بيان إعلانها الثلاثي انجازا حضاريا يؤسس لمرحلة جديدة، يكون أساسها ومبناها التعاون في مختلف المجالات دون اسثناء، ودون شروط، ودون حدود، وأن تكون فاتحة لانضمام دول أخرى وهي على الأرجح دول خليجية، وقد تلحقها دولا من خارج هذه المنظومة.
تطور الأمر باتجاه علاقات ثنائية إماراتية إسرائيلية لم يكن مستبعدا، فقد كانت له مقدمات، لكن السرعة في الإعلان عنه، والسرعة المطلوبة في إنجاز متطلباته الفنية والسياسية، والصفات التي أطلقت عليه، هو الجديد. ويبدو أن لهذا الاسراع في الاعلان صلة في الداخلين الاسرائيلي والأمريكي، حيث تمر زعامة البلدين وخصوصا الولايات المتحدة بأزمة حقيقية تهدد فرص بقاء الرئيس دونالد ترامب في سدة الرئاسة لفترة ثانية بعد كل الخلل الذي أحدثته سياساته على المستوى الدولي، وبعد مشاهد الانقسام العنصري الذي أدت إليه سياساته الداخلية وبعد هذا العدد الهائل من الوفيات والمصابين بفيروس كورونا الذي وصل إلى أكثر من 168 ألف حالة وفاة إضافة الى 5،5 مليون إصابة، وبذلك تكون الولايات المتحدة قد اختصت بربع الوفيات في العالم وبربع الإصابات أيضا، ومن المؤكد أن هذا جاء نتيجة السياسة المستخفة وغير الجدية التي واجه بها ترامب هذه الجائحة، وقد بان أثر ذلك كله في تراجع شعبية الرئيس كثيرا وتقدم منافسه جو بايدن. وستكون انتخابات الرئاسة القادمة فرصة لكشف مدى هيمنة اللوبي الصهيوني على الناخب الأمريكي ليتجاوز كل السقطات التي وقع بها الرئيس وأوقع البلاد فيها مقابل انجاز هذه الاتفاقات والاختراقات التي وصفت إسرائيليا بالتاريخية.
ولم يكن مفاجئا رد الفعل الفلسطيني الرافض للإعلان، والذي يطالب دولة الإمارات بالعدول عنه، فالقيادة الفلسطينية باتت تشعر أنها تركت لوحدها، وأنها حين كانت تتمتع بتضامن النظام العربي معها من خلال ما عرف ب”مبادرة السلام العربية”، لم تحقق مع الجانب الإسرائيلي شيئا قيما رغم كل ما قدمته من تنازلات، فكيف سيكون الوضع الآن وقد تركت لوحدها .
ولا شك أن القضية الفلسطينية تمر الآن في أخطر مراحلها منذ اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، وهي لم تعد قضية “النظام العربي”، كما عبرت عنه “مبادرة السلام العربية”، التي بنيت على مفهوم اعتراف شامل بالكيان الاسرائيلي، وتطبيع كامل معه، مقابل سلام شامل يتضمن حلا مقبولا للقضية الفلسطينية.
ومن قبل مبادرة السلام العربية ـ أي من زمن كامب ديفيد ـ لم تعد فلسطين هي “القضية المركزية”، أو القضية الأم في نظام “الأمن القومي العربي”، كما عبرت عنه الرؤية الناصرية، والقائم على الالتزام بفلسطين أرضا وشعبا والعمل على إعادة بناء الوطن الفلسطيني في إطار أمته العربية.
بل إن مفهوم ” الأمن القومي العربي” نفسه بات مفهوما مهزوزا وغير مرجعي عند أي طرف من أطراف النظام العربي، لأنه بات يخضع تماما لما تعتقد السلطات القائمة في هذه الدولة العربية أو تلك أنه “الأمن الخاص” لنظامها، أي أن ” الأمن القومي العربي”، لم يعد – ومنذ كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية- يضع النظم القطرية وأمنها تحت مظلته، بل بات الأمر عكس ذلك، بات هو نفسه موضوعا تحت جناح ورؤى النظم القطرية لأمنها.
والحق أن هذا هو المكسب الاسرائيلي الأهم في كل الاتفاقات التي جرت وتجري معه.
ومن الطبيعي في مثل هذا الوضع أن تسارع الدول التي أقامت علاقات مع الكيان الصهيوني، وتلك التي تتطلع إلى إقامة مثل هذه العلاقات لتأييد هذا التطور، والاستبشار به.
2
مجمل هذا التطور الذي يشدد أصحابه الحديث عن “السلام، وفوائد السلام، والفرص التي يفتحها السلام”، يدفعنا لطرح السؤال الأولي البدهي، حول إمكانية بناء سلام مع الكيان الصهيوني.
فهل هناك إمكانية لوجود أو قيام فرصة حقيقية نبني من خلالها سلام مع هذا الكيان؟.
ومحاولة الاجابة على هذا السؤال يفرض علينا أن نفصل في نقاط محددة، حتى لا يحدث لبس عند أحد:
** فالحديث عن السلام شيء والحديث عن هدنة بين متصارعين شيء آخر، إذ أن توازن القوى، وضغوط المرحلة، تدفع المتصارعين في أوقات محددة لإسكات المدافع، وتخلق حالة من الهدوء أو السكون يرى الطرفان أنها ضرورة لكل منهما، مصلحته فيها، لذلك فالهدنة ـ أي هدنة ـ تكون موقوتة بزمن وبظروف محددة، إذ ليست هناك شيء اسمه هدنة دائمة، وتوقع خرق الهدنة أو سقوطها يجب أن يكون قائما في كل وقت، والاعتقاد بأن الهدنة يمكن أن تستمر دون توقيت نوع من خداع النفس سيؤدي إلى كوارث لا تحمد عقباها، وحتى يتم تحويل الهدنة إلى حالة سلام، أو معاهدة سلام، لا بد أن تتوفر في الحالة الناجمة عن الهدنة الظروف الواجبة لصناعة السلام.
** والحديث عن السلام لا يمكن أن يتحقق إلا إذا بني على العدل، أي أن كلاً من طرفي الصراع يكون قد تحصل على حقه، فلم يعد له مطلب جوهري عند الطرف الآخر، ويكون من شأن معاهدة السلام أن تعالج المخلفات الجانبية لحالة الصراع السابقة، وتجبر الكسور حتى تفتح الطريق لعلاقات طبيعية بين طرفي الصراع.
ومن هنا فإنه يستحيل أن يكون هناك سلام بين مستعمِر ومستعمَر، حتى تزول حالة الاستعمار، لا يمكن أن يكون هناك سلام بين مغتصب وصاحب حق، لا يمكن أن يكون هناك سلام بين من يرى نفسه وعنصره فوق البشر، وبين من يؤمن بالمساواة الإنسانية بين أبناء الناس على هذه البسيطة، ولهذا السبب لم يكن ممكنا بناء سلام بين العنصريين البيض في جنوب أفريقيا أو روديسيا وبين مواطني هذه البلدان قبل تحقيق إزالة العنصرية.
العنصرية تعني التفوق لعنصر معين، تفوق يعطي هذا العنصر مالا يعطي غيره، ما طرحه نيلسون مانديلا كان بسيطا لكنه حاسما، إقامة نظام سياسي يعطي كل مواطن صوت، “صوت واحد للمواطن الواحد”، لا أحد يتميز على أحد ـ وكان هناك أكثر من ثمانين بالمائة من الأفارقة السود وثمانية بالمائة من البيض ـ ، وبهذه الطريقة تسقط العنصرية، وتسقط نظرية التفوق، ثم تأتي التطورات والاتفاقات اللاحقة لتزيل ما تراكم من فوارق نتيجة النظام العنصري.
في فلسطين حيث المثل الصهيوني، هناك لص أصيل استولى على أرض لشعب واضح راسخ، وشرده بالقوة التي أمتلكها، واستجلب من بقاع الدنيا المختلفة العنصر البشري الملائم له، وميزه عنصريا عن غيره، وجعل يده العليا، وحدد مهمته في بناء “مجتمع عنصري له وظيفة أساسية معادية ومناقضة لما حوله”، واعتبر نفسه البديل لكل محيطه، والوكيل عن الغرب الاستعماري في إخضاع المنطقة، عبر تفتيتها ووضع اليد على خيراتها.
أين تكمن فرصة السلام هنا؟!.
أين تكمن فرصة السلام بين “إسرائيل” والشعب الفلسطيني صاحب الأرض؟!.
أين تكمن فرصة السلام بين إسرائيل والأمة العربية التي ينتمي إليها هذا الشعب؟!.
نحن هنا لا نطرح السؤال باعتبارنا معنيين مباشرة بهذا الصراع، وإنما نطرحه باعتبارنا نقوم بدراسة حالة صراع، وفرص السلام الممكنة.
حتى يكون هناك سلام فالمطلوب أن يقام العدل، والعدل أن تعود الأرض لأصحابها، وأن يعود هذا الشعب المشرد إلى حياته الطبيعية، وأن يستطيع من خلال هذه الحياة الطبيعية أن يجري التفاعل الإنساني والحضاري مع محيطه، مع أمته، ومع العالم، لصنع المستقبل والرخاء والتقدم، ومطلوب من قوى التحرر والعدل في العالم أن تدعم هذا الشعب حتى يحقق هدفه.
هذا طريق السلام الحقيقي، لكن لا بد أن نعترف أن هناك طريقا آخر للسلام، طريقا قائما على العمل الدؤوب والمتركم لتفتيت هذا الشعب ومحو علاقته بهذه الأرض، وتفتيت هذه الأمة المحيطة بالوطن المسلوب وبالشعب المهجر، ومثل هذا الطريق اتبعه الغزاة البيض مع السكان الأصليين في القارة الأمريكية، وكان هذا ـ وللأسف ـ متاحا في ذلك العصر، لكنه لم يعد كذلك.
وحين نتكلم عن فلسطين فإننا لا نتكلم عن مجرد بلد عربي، بل عن بلد عربي إسلامي فيه مقدسات ما اجتمعت في بلد آخر، للعرب مسلميهم ومسيحييهم انتماء طبيعي له، وللمسلمين عربهم وعجمهم انتماء طبيعي به، والمطلوب حتى يكون هناك سلام في المنطقة، سلام مع هذا الكيان من غير مدخل العدل والحق أن يتم تخريب وتدمير”العروبة والإسلام”، تدميرهما ك “بنية واحدة” متماسكة وقوية مجتمعة في فلسطين، فلا يبقى للعرب مسلميهم ومسحييهم، صلة بفلسطين، ولا يبقى للمسلمين عربهم وعجمهم صلة بفلسطين.
والإسرائيليون مدعومون من الغرب الاستعماري ومن العنصرية الأمريكية يعملون من أجل تدمير العروبة والإسلام معا، نجدهم يفعلون ذلك بمثابرة وبخبث في إطار المكون الكردي، والمكون البربري، وهما مكونان اصيلان في بناء الأمة العربية وفي تجسيد الاسلام وحمايته.
لذلك نحن نعتقد مسلحين بالتاريخ، وبالتجارب الانسانية، وبالعقل العلمي أنه لا طريق للسلام مع الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية، وأن أقصر طرق السلام الحقيقي هو طريق مواجهة هذا الكيان، وأن الحماية الحقيقية للنفس والوطن والأمة والدين والإنسانية هو في تصفية هذا الكيان، وإذا كانت هذه هي الحقيقية فلا يعود جوهريا متى نصل إليها، ولا يعود جوهريا ربحنا هذه الجولة أم خسرناها، ويكون النصر أو الهزيمة في هذه المعركة أو تلك، نوع من أنواع الصواب والخطأ، التقصير أو الانجاز لمهام المواجهة، وهذا هو الطريق الذي سلكه أجدادنا مع الغزوة الصليبية السابقة.
3
وبالعودة إلى الوضع الراهن فالذي يدقق في مسار العلاقات العربية ـ الإسرائيلية لا يفوته أن يلاحظ أن تطور هذه العلاقات يسير جنبا إلى جنب مع صناعة علاقات تصادم وصراع على أساس طائفي أو عرقي أو مذهبي بين المنظومة العربية، و دول الجوار العربي: إيران وتركيا، بل وبين الدول العربية مع بعضها البعض، لتكون العلاقة مع الكيان الصهيوني بديلا عن العلاقة مع هاتين الدولتين ومع دول أخرى مشابهة قريبة أو بعيدة عن بلداننا.
وإذا كان النهج الطائفي التوسعي للنظام الإيراني يقدم تبريرا واضحا ومفهوما لحالة العداء مع هذا النظام، ومع نظريته التوسعية القائمة على نظرية “ولاية الفقيه”، وهي نظرية يتستر وراءها النهج العنصري الفارسي، فإن العداء مع تركيا أمر مختلف، إذ لا يجوز بحال من الأحوال أن يأخذ الاختلاف والتباين مع النظام التركي ـ وهو لاشك موجود وله مبرراته ـ شكل الصراع الاستراتيجي أو المبدئي، لأنه مهما كانت مصادر ودواعي هذا الخلاف، فإنها تبقى خلافات مع سياسات هذا النظام، وهي سياسات نظام يمكن أن تتغير في أي لحظة، ونتيجة أي تطورات تمر بها تركيا، أو تمر بها المنطقة، لذلك فإن بناء حالة عداء استراتيجي أمر غير جائز، لا يصح السماح به أو اعتماده أساسا لبناء تحالفات استراتيجية مضادة.
المتابع يدرك أن هناك جهودا تقوم بها أطراف عدة يظهر صخبها على وسائل الإعلام المختلفة لإحداث قطيعة استراتيجية مع تركيا الراهنة، بل ومع إرث الدولة العثمانية كله، من زاوية أن الدولة التركية الراهنة هي صاحبة هذا الإرث، وهي صانعته والمعبرة عنه، ولأجل ذلك هناك جهد يبذل لتصوير المرحلة العثمانية باعتبارها مرحلة استعمار، واحتلال، وهو جهد لا قيمة بحثية أو تاريخية له، ولم يعبر يوما عن ضمير الأمة وتاريخها، فالأمة اعتبرت الحقبة العثمانية حالة من حالات التجدد في الدولة الإسلامية الكبرى، وفرت لها ردءا يقيها هجمات الغرب الصليبي الاستعماري لخمسمائة عام.
ومشروعية هذه الحقبة جاءت من الإسلام أي من “دين هذه الدولة”، ومن القوة التي تمتلكها من يوم أن قامت، و”الدين والقوة” هما نفس العنصرين اللذين وفرا الشرعية للسلطات الإسلامية التي حكمت منطقتنا وصاغت تاريخنا.
شرعية الدولة العثمانية، كشرعية الدولة العباسية، أو شرعية الدولة الفاطمية، أو الدول المتعاقبة: الزنكية، والأيوبية، والحمدانية، ودولة المرابطين، أوالموحدي في المغرب العربي.
القاعدة واحدة، ومصدر الشرعية واحد، ولا يعرف بأن المسلمين العرب وغير العرب نظروا إلى الحكام الجدد باعتبارهم، غزاة أو مستعمرين، ولم تختلف هذه النظرة لشرعية هذه السلالات الحاكمة، رغم احتفاظ الأتراك بلغتهم، فقد كتبوا هذه اللغة بالحرف العربي، وكان للغة العربية المكانة الخاصة عندهم، وعاملوا مواطنيهم من المسلمين ( وكان هذا هو المعتمد في تلك الأزمان) على قدم المساواة، ولم تظهر سياسات عنصرية عثمانية، وإنما ظهرت سياسات عنصرية تركية حين سيطر حزب الاتحاد والترقي على السلطة في هذه الدولة عقود من انهاء وجودها.
والحديث عن التاريخ العثماني من زاوية العداء والتفنيد جاء في إطار قضية خطيرة بتنا نتابعها منذ فترة ليست بالقصيرة تستهدف كل مكون من مكونات أمتنا، تستهدف الدين، وتستهدف التاريخ ورموزه، وتستهدف الصحابة وأعلام الأمة، بل وتستهدف القرآن الكريم نفسه، تصيب المقدس، وغير المقدس، تصيب المثال والأنموذج، أي أنها تستهدف كل ما يصنع ويبني ويشكل عقل الأمة وضميرها، وحين ندقق النظر فيما حولنا نشاهد أمثلة عديدة على كل ما نشير إليه.
4
وفي إطار هذا التحول ، وبسبب الضجيج الإعلامي المصاحب، نبدو نحن الذين تربينا في زمان آخر، وتشربنا عقائد مختلفة، وآمنا بمنظومات فكرية وسياسية مختلفة، نبدو نحن وأقصد الناصريين أو الوحدويين أو القوميين وكأننا نغرد خارج السرب.
لكن حين نراجع المواقف والأفكار والشعارات، على ضوء الراهن، وعلى ضوء الماضي القريب والبعيد. على ضوء الحقائق الموضوعية التي لا تغيرها الأحداث العابرة، وكذلك على ضوء العقائد نصل سريعا إلى حقيقة جازمة ، حقيقة تقول :
نحن السرب، نحن سرب الأمة، نحن ضميرها وروحها، نحن المعبرون عن ثقافتها وقتاعاتها
نحن الذين نلتزم مفهوم الأمن القومي العربي الذي يعني أن الأمن الحقيقي لكل قطر عربي هو جزء من أمن أمته، لذلك نلتزم الدفاع عن سلامة ووحدة أرض كل قطر عربي، وسلامة وصحة وقوة وحدته الوطنية وترابط أبنائه جميعا، ونؤمن ونعمل على أن تتجه هذه الأقطار في اتجاه التوحد، بدءا من توحيد جهودها وقوتها ونموها، وإلى أقصى مدى تحتاجه وترتضيه.
نحن الذين نلتزم فلسطين الوطن كله، أرضه، ومقدساته، وفلسطين الشعب كله، الشعب الذي عض على الجرح وصبر في أراضي ١٩٤٨، والذي هُجر أو نزح، نحن نلتزم كل فلسطين وكل الشعب الفلسطيني.
وقضية السلطة الفلسطينية والدولة الفلسطينية، لا تعدو أن تكون عندنا مرهونة بقدر ما تكون هذه السلطة ،وهذه الدولة في اتجاه هذا الشعب، كل الشعب، وفي اتجاه هذا الوطن كل الوطن.
وعندنا أن هذا الكيان المقام على أرض فلسطين كيان عنصري غاصب، لا يجوز أن ينال شرعية الوجود، وإن تمكن بالقوة من فرض وجوده، وقد فرضت القوى العنصرية وجودها في عدد من الدول الإفريقية، لكنها لم تلبث أن زالت.
وعندنا أيضا أن هذا الكيان لا يمثل اليهود، وإنما يستخدمهم وقودا لخططه وتطلعاته، لذلك لا نعتبر اليهود أعداءنا، وإنما الحركة الصهيونية ومشروعها “إسرائيل”، باعتباره مشروعا عنصريا استعماريا يستهدف الأمة العربية وكل مكوناتها، وهو الذي يقف وراء عمليات التفتيت العرقية والدينية والمذهبية في وطننا، ويوظف في مسعاه هذا قوى ودول أخرى.
نحن نلتزم فلسطين وشعب فلسطين ومقاومته الباسلة، حتى يستعيد هذا الشعب بناء وطنه، وحتى يشارك هذا الوطن في النضال الشامل لأمته العربية.
هكذا جاء تعبير جمال عبد الناصر عن الالتزام تجاه فلسطين، وهكذا هو التزامنا،
واتساقا مع هذه الرؤية نحن لا نتعاطف مع فلسطين، ولا مع الشعب الفلسطيني، إنما نحن نلتزم القضية الفلسطينية شعبا وأرضا، هي قضيتنا، وهو شعبنا، نحن جزء منه، وهو جزء منا، هكذا هو موقفنا، موقف “التعاطف” يمكن أن يكون مع أي قضية عادلة في أي بقعة من بقاع الأرض، لكن مع فلسطين فنحن نلتزم الأرض والشعب، المقدسات والتاريخ، الماضي والحاضر والمستقبل.
في الأسابيع والأشهر القادمة سنشهد صعودا لحركة التطبيع، ولاتفاقات “السلام” مع الكيان الإسرائيلي، وسنشهد تبريرات متعددة ومتكاملة لهذه الحركة، وفي كل يوم سنشعر نحن أكثر بالغربة عما يجري حولنا، وقد يعتقد البعض أن الضجيج والتحول هذا كله يقيم أساسا جديدا متينا لمرحلة أخرى مختلفة يكون جوهرها وعنوانها تماما كما عبر عنه شيمون بيريز يوما: شرق أوسط جديد تقوده “إسرائيل” ، يجمع “الذكاء والمال واليد العاملة” كل من موضعه، وتكون هي القوة الرئيسية الناظمة له ولحركته، بعد أن يكون قد تم تفكيك الدول المحيطة بهذا الكيان على أساس طائفي وعرقي ـ وهو ما يعمل له حاليا ـ لتتحول إلى حليف موضوعي له.
لكن هذا الاعتقاد الذي تظهر له شواهد كثيره هو اعتقاد فاسد، وشواهده قائمة على غير اساس مكين، لذلك نحن نتفاءل بالمستقبل، نتفاءل بأمتنا، وبقدرتها على النهوض من كبوتها، وعلى الجهاد والمقاومة والنصر، وقد يأتي حدث صغير ـ وسيأتي بإذن الله ـ يقلب الموازين كلها، ويعيد حركة الأمور إلى اتجاهها الصحيح، وليس ما أشير إليه هنا خيال، وهو لا يحتاج إلى معجزة، ولكنه يحتاج إلى لحظة مواتية، وإلى حركة متناغمة مع تلك اللحظة، وإلى فتح ييسره الله لهذه الأمة.
وكل الدول العربية دونما استثناء، ورغم كل الاتفاقات التي عقدت أو سوف تعقد، هي أهل لأن تكون جزءا رئيسيا أو داعما لاقتناص تلك اللحظة المناسبة والبناء عليها.
أوليس فيما فعله فيروس كورونا في العالم، صغيره وكبيره، قويه وضعيفه، غنيه وفقيره، مثل للحدث الصغير الذي يمكن أن يقلب الموازين، ويفتح بابا لعصر جديد، وما ذلك على الله بعزيز.