عش روايتك على الورق

علي محمد شريف

كان يلوّح برأسه يمنة ويسرة كالحائر المتألم، يضرب على فخذيه بحركات تبدو كما لو أنها تمثيلية ويصْفِق كفّاً بكف مؤرجحاً جسده فوقاً وتحت، ثمّ بعد تنهيدة طويلة يكتنفها انفعال هو أقرب للافتعال قال لي: ماذا أفعل..؟ بم تنصحني يا صديقي..؟ لا أحد يمنحني مشاعر صادقة ولا أشعر باحترام من حولي.
ببرود هو أقرب لامتحان في ضبط النفس قلت: من حقك أن تكون دائم التفكير بمشاريعك الإبداعية، ولك أن تنظر إلى حارتك ومدينتك ومجتمعك كبيئة خصبة لنسج حكايتك وهو أمرٌ مشروع وربما مطلوب، أمّا أن تتمثل في الواقع هذه الشخصيّة أو تلك من رواية تحاول الاشتغال عليها، وتتعامل مع من حولك بمنطق المجرّب الذي يريد بناء سرديّته وفق استجاباتهم العفويّة وردود أفعالهم، فإنك تحوّلهم إلى حقل تجارب في مختبرك البحثيّ، وتتصوّرهم كأدوات مشاركة في العمل دون علمٍ منهم أو رغبة، إنك في هذه الحال تمارس استغباءً وتحقيرا لهم، إنّ أفعالاً كهذه تعدّ سلوكاً مهيناً وضرباً من ضروب الاستغلال والخداع والكذب، كما أنها تحدّ من عمل المخيّلة وتبتعد عن جوهر الفنّ والإبداع، كن إنسانك الحقيقيّ البسيط في علاقاتك مع الناس، ستكون منبوذاً وقد تتهم بالجنون إن لم تكفّ عن تقمص أبطال قصصك والتصرّف في محيطك وكأنك أحد شخصياتك المتخيّلة في رواياتك.
يحدث في الإبداع الأدبي أن تتسلل خصوصيات الكاتب وصفاته الشخصية وشؤونه اليومية إلى نتاجه، بل إن معرفتنا بتفاصيل حياة بعض الكتّاب واطلاعنا على إبداعاتهم تدفعنا للجزم بأن ذكرياتهم وتخصصهم العلمي ومهنهم ومحيطهم الاجتماعي وبيئاتهم الجغرافية والثقافية، لا بدّ وأن تجد صداها بين ثنايا نصوصهم نتفاً متناثرة أو مزقاً مجزّأة، وربّما صورة فوتوغرافية أو شريطاً تسجيلياً يرصد أدقّ المجريات والحوادث والتفاصيل كما لو أننا أمام سيرة ذاتية مختزلة ومنقحة. لن يكون ما سبق مستهجناً إن حقق العمل شروطه الفنية والجمالية وانتزع قناعة قارئه به إبداعياً، ستجد الكتابة في مثل هذا الحال تصنيفاً لها قد يدخلها فيما يسمى أدب السِّير أو المذكرات وربما يضعها في إطار الأدب التسجيلي.
ويحدث أيضاً أن تتفلّت شخصية ما من حكايتها وتنسلّ إلى عقلِ قارئٍ مفترض فتفتنه وتتلبّس روحه، لقد اندهش بها وأحبّها وتمنى لو يكونها ويعيش أدوارها بكلً ما تحمله من صفات وقناعات ونزوعات وأسلوب حياة وطرائق عيش.. وقد يغدو لهذا البطل وتلك الشخصية الروائية كيان معتبر في الحيّز الثقافي للمجتمعات وفي حوارات نخبها ونتاجاتهم الفنية والإبداعية، وليس سيزيف وأخيل وأنكيدو ودون كيشوت سوى نماذج عن أبطال في حكايات ملحمية وأسطورية امتلكت رمزيّتها وأبعادها المعرفيّة والجمالية، واستطاعت أن تتمفصل في ثقافتنا الإنسانية وتجلياتها المتعدّدة.
لكننا في حياتنا الحقيقية المعيشة وفي علاقاتنا الواقعية نحتاج أناساً حقيقيين يشبهوننا في عاديّتنا، ويشاطروننا الامتثال لقواعد صارمة تفصل بين واقعنا المنضبط المألوف، إن لم نقل المستنسخ، وبين نوايانا الخارجة عن اللوائح الرسميّة التي يقتصر ملعبها على مسرح دواخلنا المعتم.
ماذا لو أنّ زوربا قرّر الخروج من صفحات نيقوس كازنتزاكي وتجسّد رجلاً من لحم ودم ليعيش بيننا في حارتنا وفي منزل مجاورٍ لمنزلنا وأسرتنا. ماذا لو شاركنا عملنا وأماكن لهونا وسمرنا هل كنا سنحتمل وجوده معنا بما هو عليه من طباع وأفكار وسلوك يجسّد مطلق الحرية المنفلته من قيودها وحدودها، هل كنا سنحتمل زخم رائحته ورعونته وطيشه ونزواته وجرأته الصادمة وسلوكياته الوقحة، وهل سنقبل به إنساناً طبيعياً حين يبتر أصبعه بدعوى إعاقتها له عن العزف؟ لقد أحبّ معظمنا هذه الشخصية وفتن بها على الورق لأنها تجسيد لما يشبه حلماً مستحيل التحقق، وتعبير عن نزعاته الإنسانية المكبوتة، ورغباته في التمرّد على القواعد والقيم الضابطة لحقوقه وممارساته، بل والقوانين الحادّة لحريته فيما يمكن أن يعدّ تجاوزاً على حقوق الآخرين. لا أحد فينا صدّق حكاية زوربا لكننا جميعاً وجدنا في كونه ابنا لمخيلة صانعه وفي استحالة تحوّله واقعاَ مصدراً لطمأنينتنا وسكينتنا في حياتنا الواقعية، فيما شكل لنا سانحة لكسر قوقعة العجز واليأس، وإلهاماً يغني تصوّراتنا البعيدة عن الرقابة وحياتنا التخيلية السرية الموازية، لقد حقق لنا التوازن المرغوب بين عالمين لا يمكن لهما أن يجتمعا على الحقيقة، كما لا يمكن الفصل بينهما كي لا يتمّ القضاء على نموذجنا الحلميّ لحياة مؤجلة، ولا بأس أن نستمرّ في خداع أنفسنا على أنها ممكنة في زمن ما نعلم أنّه لن يأتي، إنّ حياة حقيقة لا يحمل صاحبها نقيضها، وربما مكملها، المتوهم، محكومة بالبؤس ومهددة بالانهيار وبالنهاية قبل أوانها.
لا يوجد عاقل ينصت لروايتك بغرض تصديق ما يسمع، إننا نقرأ لنمتلك القدرة على الحوار والشكّ، ولنستحوذ على مزيدٍ من الأسئلة، فنحن أثناء الإصغاء، وكذلك في كلّ مرّة نقرأ خبراً أو رواية ما، إنما نعيد بناء روايتنا وفق معرفتنا ومعطياتنا الجديدة.
لقد رأى جورج برنارد شو أنّ القراءة جعلت من دون كيشوت رجلاً نبيلاً، لكن تصديق الدون لما قرأه جعله مجنوناً.

المصدر: اشراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى