غزّة ليست فُتاتاً على مائدة ترامب

لميس أندوني

لنحاول أن نضع المشهد كاملا قدر المستطاع؛ تذوي أجساد أهالي غزّة أو تنصهر من القصف الصاروخي من فعلٍ مخطّط له ومتعمّد في حرب الإبادة والتجويع الصهيونية، ثم يطل علينا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بأنه وجد طريقة لإيصال الغذاء إلى داخل القطاع، وكأنه إنسان بريء فيما هو المشارك في إبادة رجال غزّة وأطفالها، وفي إحكام الحصار الإسرائيلي عليه.

وتكتمل المسرحية التراجيدية السوداء فيما يهيئ ترامب نفسه لجولة خليجية، عمادها عقد استثماراتٍ بتمويل حكومات الخليج وأثريائه، فما يهمّه مراكمة الأرباح له ولشركائه وأصدقائه، ونهب أموال العرب، وبخاصة السعودية، فممنوع على العرب انتشال غزّة من الدمار والجوع، لكنه يرحب بالاستثمارات في غزّة إذا كانت تصبّ في رؤيته “بتنظيفها من الركام وتطهيرها من أهلها” لبناء ناطحات السحاب والمنتجعات، فغزّة مصدر إثراء، والعائق الوحيد أهلها.

انعدام كامل للأخلاق ينسجم مع حرب إبادة وتقطيع أوصال شباب غزة وحرق أطفالها، لكن ما يقهر، وأقول ذلك ليس من قبيل المفاجأة، أننا نحن نعرف الحقيقة، هو الاستسلام العربي الكامل، وهذا ليس اكتشافاً. ولكن لا بد من تكرار وصف المشهد، فبدون الاستسلام العربي والتواطؤ لم تكن إسرائيل لتستطيع أن تستمر وأن تتفاخر بتفنّنها بوسائل الإجرام والتنكيل بالشعب الفلسطيني أمام عالم يعبد القوة والمال.

لها حركة حماس ما لها وعليها ما عليها، والشعب الفلسطيني وحده الذي يحقّ له مساءلتها على الدخول في معركةٍ غير محسوبة النتائج. طبعا الحرب التدميرية ليست نتيجة “مغامرة حماس فحسب”، لا بل بالأساس هي نتيجة تخاذل وتواطؤ لاأخلاقيين من النظام العربي المهترئ والمشين، فكل المسؤولية تقع على المقاوم، فيما يتعالى صوت المستسلم، وينظّر ويدّعي الحكمة والأخلاق، وحتى إنقاذ الشعب الفلسطيني من نفسه.

الجديد حالياً أن الصفقات الكبرى اقتربت، وسيل الأموال لن ينجد أهل غزّة وفلسطين، وإنما يفتح شهية تجّار الحروب وإبادة الشر، فكل جهة سوف تستفيد من هذه الصفقات الكبرى التي ستساهم في إفقار الشعوب وتعزز الهيمنة الإسرائيلية الكاملة على المنطقة، هي “أموال الدم”، ولا وصف آخر لها. أجل، ذلك كله، وليرضى سيد البيت الأبيض، الذي يتباهى باحتقاره الإنسانية جمعاء، يجري قمع الشعوب وكبت حرية التعبير، فالحديث عن مقاومة فلسطينية، ونحن نقصد كل أشكال المقاومة مثل مواجهة التطبيع وحركات المقاطعة ودعوات سحب الاستثمارات من إسرائيل، قريباً ستصبح غير قانونية ويخضع النشطاء والصحافيون والحقوقيون للتهديدات والملاحقة. وهنا أخصّ الأردن، فلولا ابتزاز دولة خليجية عربية دخلت في المعاهدات الإبراهيمية، التي تبشر بحقبة إسرائيل، لكان الوضع أهون. وهذا ليس تبريراً للإجراءات التي طاولت، أخيراً أنواع النشاطات المتضامنة مع فلسطين، لن أستغرب. لكن، وآمل ألا يحدُث ذلك، أن يقوم الأردن بتجريم فكرة المقاومة المسلحة وفصائل المقاومة الفلسطينية، تحت ضغط الخوف من قطع المساعدات الأميركية، وأرجو أن تنجح شخصياتٌ وطنيةٌ وازنة في إقناع أصحاب القرار بأن في ذلك خطرا على الأردن نفسه.

ما يحدث حالياً، في ما يتعلق بحقوق الفلسطينيين، أن ترامب ومشاريعه لا تختلف كثيرا عن مشاريع رأسمالية حتى في أميركا نفسها

للإنصاف، إن دولا عربية سبقته وتتفاخر بدورها بمحاولة إخضاع كل بلد عربي يفتقد إلى الثروات، لفرض الصمت، فدول معينة، لكن مؤثرة للأسف، لا تمنع المسيرات فحسب بل تفرض قيماً جديدة تجعل من المشروع الكولنيالي الاستيطاني العنصري مشروعا حضاريا يروض “الهمجيين”، وتقمع أي أحد يفكر أو يدعم أو يمارس المقاومة “السلمية والثقافية والقانونية”، ولن أقول “المسلحة” فهذا في نظرهم إمعان في الإرهاب، فحرب الإبادة ضرورة حضارية، أما المقاومة المسلحة الفلسطينية فإمعان في “التوحش”.

لا أريد الخوض هنا في نقد تجربة حركة حماس، لأن تقييم المقاومة الفلسطينية لا يمكن أن يخضع لمفاهيم السياسة الأميركية أو الإسرائيلية، فمهمّة الاستعمار المباشر أو غير المباشر منع المقاومة وتجريمها، فالمقاومة حق والنقد المشروع لا يتحدى مشروعية المقاومة، بل يراجع دورها وأخطاءها وممكن القول خطاياها، لكن هذا ليس ما يجري من شيطنة للمقاومة، يهدف إلى فك الارتباط السياسي والقومي بقضية فلسطين.

ما يجري الآن، من خلال حملات ممنهجة وبعض وسائل الإعلام العربية، قطع الصلة بالقضية الفلسطينية وترويج “سلام” مزيف كغطاء لإتاحة الوقت لإسرائيل للقضاء على الفلسطينيين ويمنحها وأميركا ومن يقبل بالعمل معهما فرصة تصفية القضية الفلسطينية، فالفلسطيني يصبح حالياً العدو، أو على الأقل الكائن المزعج الذي يمنع الفرح ويعيق الازدهار وحرية الفنون والتمتع بالحياة في بلاد العرب أوطاني، فليس مصادفةً أن لا يجرؤ الفنانون العرب على قول كلمة حق عن فلسطين أو تأييد شعبها، خوفا من محاربتهم، فمن يرعَ المهرجان يتحكّم بالسوق والفرص، فيما يعلن نجوم في “هوليوود” تضامنهم مع فلسطين، فالقمع وصل إلى كل نواحي الحياة، والحكام ينتظرون ترامب بخوف لدى بعضهم وبانبهار لدى بعضهم الآخر، هو رئيس لا يقدر ويزدري الثقاقة والفنون في بلده ويعمل على تطويع كل شيء في العالم لأهوائه، فدم الفلسطيني لديهم رخيص، بل الأهم هو الخلاص من عبء القضية الفلسطينية، وكأن إسرائيل الصديق والفلسطيني هو العدو، فلماذا قد يهتم ترامب بمستقبل الفلسطينيين إذا تخلى حكام عرب عنهم وعن شعوبهم؟ ولا ندري لربما يتسابق بعضهم للمشاركة على وقع إغراء الاستثمار على أشلاء الغزّيين.

لنتذكّر أن الترسانة العسكرية الصهيونية لم تتمكّن من هزيمة هوية أصحاب الأرض الأصليين، وأن فلسطين أصبحت رمزاً عالمياً للحرية

ما يحدث حالياً، في ما يتعلق بحقوق الفلسطينيين، أن ترامب ومشاريعه لا تختلف كثيرا عن مشاريع رأسمالية حتى في أميركا نفسها، حين تُستباح مقابر السكّان الأصليين في مناطق أميركا لبناء أسواق وعقارات، رغم لجوء هؤلاء إلى القانون، ولا يختلف عن تصرّف الشركات العقارية التي تجبر سكان الأحياء الفقيرة على مغادرة بيوتها، حتى لو سكنت في الشوارع، “فتجميل الأحياء” على حساب حياة الفقراء لجني الأرباح ولبناء مقاهٍ للأغنياء أكثر أهمية. لكن ما يحدث أن هناك دمجا لأهداف المشروع الصهيوني لاقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه مع أهداف أشد إدارة أميركية عبادة للرأسمالية وتوحّشاً وصلافة بدون رتوش أو قناع.

نعم.. المنطقة مهيأة لاستقبال ترامب، لكن حذار من اليأس؛ فاستمرار الفلسطيني وحفاظه على هويته لم يعتمد يوماً على المقاومة المسلحة، وإنما على تاريخ من الثقافة وواقع من الوعي والإبداع. وفي أشد لحظات اليأس؛ لنتذكّر أن الترسانة العسكرية الصهيونية لم تتمكّن من هزيمة هوية أصحاب الأرض الأصليين، وأن فلسطين أصبحت رمزا عالميا للحرية، ولن تنهار غزّة على فتات مائدة ترامب.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى