موت غير مهمّ في السودان

حمّور زيادة

قالت رئيسة الاتصالات ببرنامج الأغذية العالمي في السودان، ليني كينزلي: لا نشهد اهتماماً دولياً بالسودان بقدر ما نشهده في الأزمات الأخرى. ينبغي ألّا يكون هناك تنافس بين الأزمات، لكن للأسف! مع كلّ ما يحدث في العالم من صراعات وأزمات إنسانية وأمور أخرى تتصدّر عناوين الصحف، نرى أن السودان (لن أسمّيه منسياً) يُتجاهَل”. بهذه الكلمات تلخّص المسؤولة الأممية وضع السودان في الاهتمام العالمي، في العام الثالث للحرب.

المتقاتلون، الذين ظنّوا أن الحرب ستكون مجرّد ساعات أو أيام تؤول بعدها السلطة إلى الجيش وحلفائه خالصةً، أو تستولي قوات الدعم السريع على الحكم، اكتشفوا أن الحرب لم تسمح لهم بتحقيق ما وُعدوا به. رفض طرفا الحرب الوساطات الدولية المتكرّرة لوقف إطلاق النار، وتبادلا التعنّت واللعب بورقة دخول المساعدات الإنسانية. احتاج الأمر إلى وقتٍ طويل، وجهد لم يكن ضرورياً، لمنع المتقاتلين من استخدام الجوع سلاحاً، ورغم الوعود والتعهّدات، ما زالت قوات الدعم السريع تحاصر مدينة الفاشر، وتحارب أهلها بالتجويع والقصف.

وبينما تمرّ أغلب المساعدات الإنسانية الموجّهة إلى نحو 25 مليون سوداني عالقٍ وسط الحرب عبر ميناء بورتسودان، تستهدف المليشيا الميناء والمرافق المدنية في مدينة الملاذ الأخير. ويصرّح متحدّثها أن لا مكانَ في السودان آمناً لقائد الجيش ومَن معه. بينما الواقع أن ما خبره السودانيون في سنوات الحرب أن لا مكانَ آمناً للمواطنين. ومن هرب إلى شرق البلاد ملتجئاً إلى الميناء المحصّن يضطرّ إلى النزوح مرّة أخرى، حتى ما عادت إحصاءاتُ المنظّمات الأممية، التي تقدّر نازحي السودان المتضرّرين من الحرب بنحو 14 مليون مواطن، تقدّر أن تحدّد كم مرّة نزح من بقي منهم داخل البلاد. تقدّر المفوضيةُ السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين النازحينَ الداخلين بنحو تسعة ملايين مواطن، رغم هزيمة “الدعم السريع” في العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة، لكنّ نزوحهم لم يتوقّف.

الحرب التي بدأت بصراع حليفَين قديمَين وشريكَي سلطة، تطوّرت بسرعة لتصبح اقتتالاً جهوياً، تغذّيه المحاور الدولية لتصفية الحسابات القديمة والصراعات الجديدة، وتفشّت المليشيات في البلاد، كما المجاعة والأوبئة. لذلك وُصفت الأزمة الإنسانية التي نتجت منها بأنها الأكبر في العالم، لكنّ العالم لا يبدو مهتمّاً بما يكفي. يقول مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية: “يحتاج ما يقرب من ثلثي سكّان السودان إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بمن فيهم 16 مليون طفل. وقد وصل انعدام الأمن الغذائي الحادّ إلى مستويات تاريخية، مع تأكيد حالات المجاعة في أنحاء مختلفة من البلاد، وتعرّض الملايين لخطر الموت جوعاً”، لكنّ الجيش ظلّ ينكر وجود المجاعة، بينما تتهم “الدعم السريع” الجيش بمنع دخول المساعدات للمحتاجين، فإن مرّر الجيش قافلةً اختطفتها “الدعم السريع”! ومرّة إثر مرّة، واتفاقاً بعد اتفاق، يظهر للعالم أن المتقاتلين لا يرغبون جدّياً في وقف القتال، أو لعلّهم فرّطوا في ذلك وقت أن كان ممكناً، قبل عامَين ونصف العام، أو ربّما عام، لكن ما كان ممكناً وقتها ما عاد مطروحاً بعد تطوّر النزاع، وتحوّل البلاد ساحةَ صراعات الأقطاب الوليدة والمتمدّدة.

بحسب بعض التقديرات، مات نحو 150 ألف مواطن جرّاء الحرب، وحُرم 17 مليون طفل من فرص التعليم، وانهار النظام الصحّي. وسط هذا، تُغلَق المطابخ المركزية و”التكايا” التي تقدم الغذاء المجّاني للمواطنين بسبب نقص التمويل، فسياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب أدّت إلى انخفاض تمويل المؤسّسات الدولية. كذلك، لم تثمر المؤتمرات الأوروبية في جمع التمويل الكافي لمواجهة الأزمة الإنسانية، لكن لا تجد الحرب مشكلةً في توفير الطائرات والمسيّرات والأسلحة المتنوعة، فالموت استثمار مربح أكثر من الحياة.

يقول المجلس النرويجي للاجئين إنه نجح في توفير مساعداتٍ لنحو نصف مليون مواطن في 2023، ثمّ نحو مليون مواطن في 2024، لكنّ المجلس اليوم يُعلِن أنه سيصل إلى عدد أقلّ في 2025 بسبب توقّف التمويل، وتعليق عدد من المشاريع.

الأزمة الإنسانية في السودان، رغم أنها انعكاس للأزمة السياسية والحرب، لكنّها أيضاً أزمة أخلاقية، إذ يواجه شعب كامل الموت وسط عجز عالمي عن وقف القتال أو توفير الأمان للمدنيين.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى