
منذ الثورة الألسنية، ونظرياتها، ومفاهيمها المتعددة، وآلاتها الإصطلاحية، أحدثت تغيرات واسعة فى الفلسفة والسوسيولوجيا والقانون، والأدب، وذلك فى أحداث خلخة ونقلات ، وتجديد ، فى عديد المناهج التى كانت سائدة داخلها، على نحو اتسم بقدر كبير من الراديكالية، والانتقال من البنيوية إلى ما بعدها، ومن تحليل النص إلى الخطاب discourse، ومن Auston أوستن وسارال Searle، وجاريسGarice ، وآدم Adam ، وهايمز Humes ، وسلمبروك Slembrouck وما بعدهم ، إلى ميشيل فوكو، وكلود ليفي شتراوس والأنثربولوجيا اللسانية ، ولويس التوسير، وأمبرتو أيكو، وآخرين. تحولت نظريات تحليل الخطاب إلى جزء من ثورة نظرية فى عديد من الجماعات العلمية فى المدارس البحثية، والأكاديمية والفلسفية والسياسية الغربية، وخاصة تحليل الخطاب السياسى وسلطته ومقاوماته، وكالعادة انتقل مفهوم الخطاب إلى العالم العربى متأخرًا كجزء من نظام الموضات النظرية دو درس وفحص لاصوله ومرجعياته الالسنية ، وخلط بعضهم بينه ، وبين منهج تحليل المضمون الكيفي، أو تحليل النص، وقليلة هى الدراسات التى تناولت تحليل الخطاب السياسى، والسلطة، والمعارضات، والجمهور المتلقى ، وشرائحه الاجتماعية على تعددها، واختلافاتها، وايضاً التشكيلات الخطابية التي يستمد منها الفرد خطابة وفقا لفوكو ، ووظائفه السياسية والإيديولوجية والدينية ، وذلك فى مراحل الكولونيالية ، وحركات الاستقلال الوطني ، وما بعدها.
ثمة اختلافات في مستويات الخطاب السياسي –المكتوب والشفاهى – فى النظم الديمقراطية الغربية عن النظم الاستبدادية، والتسلطية، في جنوب العالم ،وخاصة فى عالمنا العربى ما بعد الاستقلال. والخطاب ينطوي علي خطابات داخله وماوراءه .
الخطاب السياسى فى عالمنا العربى ما بعد الاستقلال، كان ينطوي علي بعض من المرجعيات الإيديولوجية لنظم سياسية تستمد مصادرها من بعض المفاهيم الدستورية، والقانونية الليبرالية كجزء من بعض الثقافة السياسية الغربية ونظم وخطابات النظم الكولونيالية الليبرالية في بلادها – فرنسا وبريطانيا وإيطاليا – على نحو مجتزأ، ومجازى ومفارق للواقع الإستبدادي، أو التسلطى الموضوعى فى كل بلد عربى. من ناحية آخرى بعض المصادر استمدت من إيديولوجيات الطريق اللارأسمالى للتنمية، وبالأحرى رأسماليات الدولة البيروقراطية، وبعض من الإصطلاحات الماركسية اللينينية او الماوية ، أو ما أطلق عليه الاشتراكية والقومية العربية. بعض الخطاب السياسى فى الدول الملكية المحافظة كانت المرجعية الدينية الإسلامية، هى التى تتناسل إصطلاحاتها، وسردياتها الفقهية، فى بنية الخطاب وما وراءه، وداخله من خطاباتهم وذلك من منظور الققه المسوغ والمبرر لسلطة الحاكم المتغلب في فقه الجمهور السني .
فى غالبُ الخطاب السياسى للقادة السياسيين العرب ما بعد الاستقلال، كان المصدر الدينى الإسلامي جزءًا أساسيا في بنية هذا الخطاب ومرجعياته ، لأن الدين كان ولايزال يمثل أحد أهم مصادر الشرعية السياسية فى نظم وسلطات سياسية عربية لم تصل إلى الحكم عن طريق الديمقراطية ومؤسساتها وآلياتها، كتعبير عن الإدارة العامة للشعب ، وفئاته وشرائحه الاجتماعية المختلفة، ومكوناته الدينية والمذهبية، والطائفية، والعشائرية، والقبائلية.. إلخ.
الخطاب السياسى العربى المسيطر تاريخيا ، كان يعكس ولا يزال تغيرات السلطات السياسية، ، وتحولاتها من مرحلة تاريخية لأخرى، والتغير فى إيديولوجياتها السياسية ، وأجهزتها الإيديولوجية من رأسمالية الدولة البيروقراطية، والحزب الواحد، أو الحزب المسيطر على أحزاب موالية، إلى الاقتصاد الحر، ثم النيوليبرالية الوحشية، والتعددية الحزبية الشكلية، والمقيدة ، فضلا عن القيود القاسية على الحريات العامة والشخصية.
فى مراحل الانتقال والتحول السياسى من سياسات لأخرى داخلية، أو خارجية وتحالفاتها الإقليمية والدولية، كان الخطاب السياسى السلطوى العربي يرمى إلى تحقيق بعض الوظائف السياسية التالية :
1- بناء مصادر للشرعية السياسية، وتجديدها وترويجها، وسط مكونات شعب كل بلد عربى.
2- التعبئة السياسية، والحشد الجماهيرى وراء كل قيادة سياسية.
3- التغطية على الواقع الموضوعي، ومشكلاته وأزماته، وسياسات السلطة الحاكمة المفارقة له.
4- المراوغات السياسية، ووظيفة التبرير للإخفاقات والفشل للسياسات السلطوية.
5- إشاعة رهاب الخوف فى سياق بعض الأزمات الإقليمية – الصراعات البينية مع دول عربية أخرى، أو التهديد الأسرائيلي ، او التدخلات الخارجية في بعض دول المنطقة او الحروب والنزاعات الأهلية – أو مصادر التهديد الداخلية مثل الإسلام السياسي الراديكالى، وجماعات العنف، وذلك لتحقيق الهيمنة السياسية، والأمنية، وتبريرا لتطبيق النظام القانونى للطوارئ، فى قواعده، وإجراءاته، وقضاء الطوارئ.
6- بناء وترميم صور الزعامة/ القيادة السياسية، من خلال عقلنة سياساتها، وقراراتها، وإنجازاتها.
7- التبشير السياسى، والإيديولوجى، وتبرير التغير فى السياسات الداخلية والخارجية.
٨- محاولة بناء موحدات للتكامل الداخلي بين مكونات مجتمعات انقسامية دينية ومذهبية وطائفية وقبلية وقومية وبعضها لغوية ومناطقية.
الخطاب السياسى ليس قاصرا على خطاب السلطات العربية الحاكمة فقط، وإنما هناك خطابات سياسية للمعارضات الرسمية، أو المحجوب عنها الشرعية السياسية والقانونية، ويتفاوت الخطاب بين هذه القوى والأحزاب المعارضة بين النقد الراديكالي لسياسات وإيديولوجية النظام مثل خطابات الجماعات والأحزاب الماركسية.
ترمي بعض هذه الخطابات إلى جحد شرعية النظام على أساس دينى كجماعة الأخوان المسلمين، والجماعات السلفية، والجماعات الإسلامية الراديكالية . بعض الأحزاب السياسية الشكلية المعارضة التى تفتقر إلى قواعد اجتماعية يسعى خطابها إلى انتقادات جزئية وهامشية لسياسات النظام، تبريرا لبعض تمثليها الجزئى داخل بعض مؤسسات النظام، وتحديدا البرلمانات، أو السماح لها بإصدار صحف حزبية، بديلا عن تحركها وسط قواعد اجتماعية واسعة او محدودة ترتكز عليها.
يدور الخطاب السياسى السلطوى بين الوعد والوعيد والأغواء السياسي والاجتماعى، ويرمى إلى استثارة واستدعاء الأساطير الجماعية في الثقافة الشعبية، وإلى استدعاء السرديات الدينية الموروثة دعمًا لشرعية الحكم. فى كل الأحوال الخطاب فى ذاته سلطة، ومن ثم يرمى إلى الإخضاع، والقبول والامتثال له. وكما يذهب جان بودرياد Jean Baudrillard ” أن الأغلبية الصامتة من الناس يجدون فى الامتناع عن الكلام وسيلة لمقاومة التأثير الجارح لكلمات السلطة، وفق ما أشار إليه ميشال مافيزولي، فى كتابه (حديث الصمت ، ت محمد الحاج سالم ص 50) ، وذلك قبل الثورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي ، والذكاء الاصطناعي التوليدي .
الخطاب السياسى فى الدول الديمقراطية، كما فى الدول الاستبدادية والتسلطية، يرمى في غالبة او بعضه إلى حجب الحقيقة أو تزييفها علي الرغم من رقابة الصحافة ووسائل الأعلام ، والبرلمانات ..الخ ، ووفق فوكو الخطابات مراقبة سلطويا من داخلها أو من خارجها، وذلك للحد من سلطاتها ومخاطرها ، ثمة أيضا صراع خطابات فى الدول الديمقراطية الغربية، وسياسة استبعاد للخطابات المضادة لقيم النظام المؤسسة وثقافته السياسية ومثال ذلك خطابات بعض المهاجرين المسلمين فرض تطبيق الشريعة عليهم في مجتمعات علمانية .
خطاب السلطة –واجهزتها الإيديولوجية والدينية- فى العالم العربى ما بعد الاستقلال ينطوى على تابوهات كجحد شرعية السلطة أو نفيها ، أو الدين، والجنس، والأعراف والأخلاق السائدة والموروثة، لأنه خطاب سياسى ينطق بأسم الجموع ، والمكونات الاجتماعية المختلفة للشعب .
هذا الخطاب السياسى، وسلطته الذى ساد فى كل البلدان العربية –على التمايزات فيما بين بعضها بعضا – كان يحقق بعض التأثير فى مراحل تاريخية سابقة ومحدودة، ثم سرعان ما خفت هذا التأثير كنتاج لمفارقته للواقع الموضوعى وتفاقم مشكلات هذه المجتمعات ، هذا النمط من الخطاب السياسى، وسلطته بات يفقد بعض وظائفه، وتأثيره مع الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي التوليدي ، وذلك للأسباب التالية:
أ- انفجار خطابات الجموع الرقمية الغفيرة، المضادة للخطاب السياسى للسلطة، ومعارضاتها، والسخرية، والهجاء لمقولات الخطاب، وأساليبه في الأقناع، أو الخداع ، أو تزييف الحقائق او والواقع.
ب- بروز سياسة ما بعد الحقيقة post- truth في الخطاب السياسى للسلطة، والمعارضات.
ج- خطاب الكذب الرقمى من بعض الجموع الغفيرة، ومن المجموعات الرقمية المعارضة للخطاب السياسى للسلطة، أو الخطابات الدينية الطائفية والمذهبية داخل كل بلد، أو فى المنطقة.
د- تراجع تأثير الإعلام التلفازى الرسمى، والقنوات الفضائية الممولة من الدولة، أو بعض إتباعها.
ه- الدور المتنامى لأنظمة الذكاء الاصطناعى التوليدى ، ولجوء الأجيال الشابة لها، فى طرح الأسئلة، وألبحث عن إجاباتها .
لا شك أن التطورات التقنية الكبرى للثورة الرقمية، والذكاء الاصطناعى التوليدى ستؤدى إلى التأثير على الخطابات السياسية على اختلافها، وعلى سلطاتها، وتأثيرها علي المتابعين، وأيضا الخطابات الدينية الرسمية، وذلك على نحو سيشكل قطيعة مع السياسة التي سادت العالم مابعد الحربين العالمية الثانية ، والباردة علي الرغم من بعض الهوس الشعبوي والقومي كجزء من تقلصات حالة اللايقين في تطور عالمنا ونظامه الدولي مابعد الحرب الثانية ، وايضاً بعض انتهاكات ترامب لليبرالية الأمريكية في علاقة رئيس الدولة بالسلطتين القضائية والتشريعية ، والجامعات الكبرى بل وبعض أجهزة الدولة التنفيذية ، وايضاً اتهامات اليمين المتطرف الفرنسي للقضاء الفرنسي بأنه مسيس . تغيرات لحظة تغير فائق السرعة في تحول عالمنا إلي مرحلة تحول وقطيعة مع مراحله التاريخية السابقة .
المصدر: الأهرام