توهان العقل النخبوي الرقمي

نبيل عبد الفتاح

ساهمت الثورة الرقمية والذكاء الإصطناعي في إحداث بعض من التحولات الكبرى في عالمنا الفعلي والرقمي، ومن ثم على عديد المفاهيم التي انشغل بها العقل الإنساني في انتقالاته من مرحلة تاريخية إلى أخرى، والقطيعة المعرفية بين بعض هذه المراحل، ومعها أنظمة اللغة والاصطلاحات، والعلامات والمناهج العلمية في تحليل عمليات التغير ومشكلاته. عديد المفاهيم الحداثية ومابعدها ومرحلة المابعديات السائلة، وحتي الثورة الصناعية الرابعة، وبشائر الخامسة ، تعاني من عسر استخدامها وظيفيا في تحليل حالة عالمنا المضطرب وانفجار بعض أزماته المستمرة والجديدة ، وخاصة المفاهيم التي شكلت التراثات الحداثية ومابعدها علي التمايز فلسفيا بينهم . الانفصال والتداخل مابين الواقعي والرقمي ادي إلي ضرورة موضوعية تتمثل في اجراء مراجعات لمفاهيم عديدة في ضوء الرقمنة والذكاء الإصطناعي ، وعالم الإناسة الروبوتية وأثرهما علي الحياة الإنسانية كلها ! الآلات المفاهيمية الفلسفية والقانونية والسوسيولوجية والثقافية والفنية والآدبية باتت تحتاج إلي بعض من المراجعات مع التحول الرقمي والذكاء الإصطناعي . مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة والاخاء والفرد، والفردانية، والديموقراطية التمثيلية ، والمجال العام والخاص ،والسلطات الثلاث المستقلة والتمايز والأنفصال بينهم ، وأثر الرقمنة عليهم، والأحزاب السياسية ووظائفها وادوارها في تمثيل المصالح الاجتماعية والتعبير عنها ، والآليات الأنتخابية ومشاكلهم الآن تتطلب تعديلات في هذه الأنظمة ..الخ .

غالب التراث السياسي والإجتماعي والثقافي والقانوني والقيمي وهندساته  ووظائفه في عمليات التفكير والتحليل تحتاج إلي من بعض المراجعات والتعديلات لمواكبة التغير العلمي والتقني فائقة السرعة . من بين هذه التحولات فائقة السرعة تأثير الذكاء الإصطناعي والرقمنة علي التمييز مابين عقل النخب وعقل الجماهير ، والخاصة والعوام ، والأهم علي العقل الاكاديمي والبحثي ! في ظل الحرية الرقمية، وذلك انطلاقاً من كيفية تمثل عقل الخواص للحياة،  والأدوات واللغة الرقمية ، وهو مايبدو من استخدامات بعضهم ، وخاصة في المجتمعات العربية لوسائل التواصل الاجتماعي، والسؤال هل لايزال قائماً التمايز مابين عقل النخبة وعقل العوام والجماهير الرقمية والفعلية الغفيرة ؟ أن بعض المتابعات لعينات من أنماط التفكير وخطابات المنشورات ، والتغريدات ، والفيديوهات والصور ، تشير إلي التوظيفات التالية من النخبة للحياة الرقمية :

1-عرض للدراسات والمقالات والكتب واغلفتها او ملخصات وجيزة جداً لها،او اعمال روائية وقصصية ، او قصائد واعمال فنية، أو قطع موسيقية وجيزة جداً!

2-الاعلام عن نشاطات ومشاركات في بعض المؤتمرات أو ورش العمل..الخ.

3- نشر ما يكتب عنهم في الصحافة التقليدية ، او علي  مواقع التواصل الاجتماعي عن بعضهم ،أو وضع بعضهم لصوره او فيديوهاته الوجيزة في الندوات او مع اصدقاءه ، او زملاءه ،او اسرته او اقاربه .

4- وضع منشورات للتهنئة لمعارفه بالترقيات ، والوظائف او أعياد الميلاد، او تقديم واجبات العزاء لأهله ومعارفه في القري والمدن والزملاء في العمل او الجيران.

5- تقديم بعض المقولات لكاتب اوفيلسوف او فنان من الكبار محليا وعربياً وعالمياً تعبرُ عن وجهة نظره ، او تأكيد لها أو للأختفاء وراءها في نقد أوضاع سياسية او دينية او اجتماعية معتلة في بلاده أو وسطه الجامعي والإعلامي والثقافي .. الخ !، أو لإظهار إطلاعه وسعة معرفته ، وفي عديد الأحيان التخفي وراء الأسماء العلم الشهير ، وكتابة رأي ومقولة سطحية لم يقلها هذا العلم أوذاك !

6- ابداء الرأي في قضايا ومشكلات وظواهر وشخصيات وطنية وعربية وهجاءها بقسوة لايستطيع ابداءها في المجال العام الفعلي المغلق والمحاصر ، وبعضهم يتخفي وراء حسابات  بأسماء مصطنعة ، وبعض هذه الآراء تطرح في بعض الأحيان في لغة غوغائية واثارة واحكام قيمة مرسلة، وتفتقر إلي معلومات دقيقة ودراسة مسبقة ، وتخصص ، او لجوء الي دراسات المتخصصين !

7- توظيف الواقع الأفتراضي في عرض مشاكله المهنية ، أو داخل الوسط الاكاديمي او الثقافي ، أو في تشويه الاخرين المنافسين والتلميح لأشخاصهم ، او الهجاء المباشر لبعضهم ، أو الإشادات المتبادلة بين بعض العصب الأدبية ، او الثقافية او الاكاديمية او البحثية ببعضهم بعضاً !

8- إبداء الآراء الدينية والأخلاقية الوضعية والشعبية لإثبات تدينه ومناصرته لدينه ومذهبه علناً ، لتكوين صورة الملتزم دينياً بقطع النظر عن سلوكه الفعلي في الحياة الاجتماعية والمهنية !

9- النزعة العارمة للافتاء في الأمور الدينية ، والمذهبية.، والإيديولوجية الفجة والسوقية الشائعة ،وايضاً في تخصصات لاعلم للعقل النخبوي الضيق بها ، مثل موقف بعض من لديهم مواقف لادينية ضد اديان ومذاهب مختلفة ! ضد المقاومة الفلسطينية المسلحة ضد الأحتلال الكولونيالي الاستيطاني الإسرائيلي للأراضي المحتلة بعد عدوان 5 يونيو 1967 ، وحقها المشروع في التحرر وتقرير المصير، والأستقلال الوطني ، علي أراضيها المحتلة!  موقف ديني وإيديولوجي من بعض العناصر والمؤسسات  ، بدعوي أن المقاومة ذات أيديولوجية اسلاموية سياسية ! يتناسي هؤلاء خرق إسرائيل للقوانين الدولية للحرب والدولي الإنساني ، وقرارات مجلس الأمن- 242 والقرارات ذات الصلة –  والشرعية الدولية . ويتناسون أيضا ان المقاومة – أيا كان الرأي في إيديولوجيتها – تم انتخابها كسلطة في انتخابات عامة ، وحازت الأغلبية في المجلس الوطني الفلسطيني ، وأيضا طبيعة الثقافة الشعبية المحافظة ذات الجذور الدينية ، والنظام الاجتماعي التقليدي القائم علي الرابط العائلي والعشيرة والديانة ، ومن ثم هي تمثل هذا الواقع الاجتماعي وتعبر عنه ، والأهم عدم التمييز مابين نقد حماس كسلطة حكم وممارساتها المختلف عليها ، ورفض سياساتها وسلطتها ، وما بين حماس وفصائل المقاومة الأخرى – الجهاد ، والشعبية اليسارية – وبين هذه الفصائل كمقاومة مشروعة للاحتلال الكولونيالي الأستيطاني ، وحرب الإبادة ، والحصار البري والبحري والجوي للقطاع ، والعقاب الجماعي لسكان القطاع المدنيين ! بعض هذه المجموعات الرافضة للمقاومة الفلسطينية تتمركز حول سردياتها الخاصة وهوياتها المختلفة في مواجهة هوية المقاومة وايديولوجيتها ، وهو مايعكس تصورات استعلائية مضمرة، ومعلنة في آن معاً ! وهم ما يمثل نمط من التمركز حول الذات الجماعية ، او “الوطنية ” المتخيلة وأساطيرها إزاء المقاومة ، وهو مايعكس بعض من ثقافة كراهية الآخر المختلف ، أيا كانت الأسباب الكامنة فيما وراء هذه التوجهات الإيديولوجية او السياسية إزاء المقاومة المشروعة ، وفق احكام القانون الدولي والحرب والإنساني ، في ظل حرب إبادة جماعية  – قتل   34388   سبعين بالمائة منهم من الأطفال والنساء والشيوخ ، وعدد المصابين 77437 – حتي يوم 26/ 4/2024 -، وعقاب وحصار جماعي ، وتجويع وتهجير قسري للسكان ،وهدم 75 بالمائة من المباني العامة والخاصة وانهيار النظام الصحي ، وهدم بعض دور العبادة والمستشفيات ونقص الادوية ..الخ في تراجيديا سياسية وعسكرية فائقة الخطورة ! وإنتهاكات جسيمة لكل القيم الإنسانية والأخلاقية الغربية  والعلمانية المدّعاة ! من هذه المجموعات ومعهم أمريكا  وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا ..الخ  الداعمة لدولة إسرائيل المحتلة للأراضي الفلسطينية !

10- يخلط بعض العقل النخبوي الرقمي ما بين النظريات العلمية ومابين المرويات والسرديلت الدينية في تأويلات تتسم بالتضليل ، وفي ذات الوقت تعكس أزمة العقل العلمي لدي بعضهم ، والنزعة إلي الذيوع وسط الجماهير الرقمية الغفيرة ، علي نحو يؤدي إلي تكريس التفكير اللاعلمي ، والميتاوضعي ، والخرافي الذي تمدد وسط الجماهير الفعلية والرقمية الغفيرة ، في ظل هيمنة المرويات الشعبية وسردياتها حول الدين ، ومايبعدها عن جوهر التدين وطابعه الفردي والأخلاقي .

11- تشير الازمات السياسية العربية إلي ميل العقل الديني النقلي للنخب الدينية ، وللجماعات الإسلامية السياسية ، إلي اللجوء إلي توظيف المقولات الدينية بوصفها أحد أسلحة المواجهة والأنتصار، والدعاوى علي الخصوم السياسيين داخليا في الحكم او المعارضة ، وهو ما يبدو مهيمنا في المنشورات والتغريدات والفيديوهات الوجيزة ، ليس هذا فحسب ، وإنما ظهر علي وسائل التواصل الاجتماعي اثناء عمليتي طوفان الأقصى ، والسيوف الحديدية وحرب الإبادة علي قطاع غزة ! غابت التحليلات والمعلومات والمعرفة لصالح خطاب الدعوات للنصر علي إسرائيل وامريكا والدول الأوربية الداعمة لإسرائيل ! هذا الاتجاه النمطي في التفكير النخبوي الديني والمدني المؤتلف معه، يمثل سمت تفكير النخبة الدينية الرسمية وغيرها في عالمنا العربي ، وخاصة لجوءها للصور والاوصاف الدينية لليهود الموروثة في التراث الديني الوضعي والشعبي!

ان العقل الرقمي النخبوي في توظيفاته للحياة الرقمية يتقارب في بعضه مع العقل العربي الرقمي العام ، وهو ما يشير إلي تحولات في طرائق التفكير النخبوي وعملياته ، وتراجع العقل النقدي ومستويات التكوين والتعليم منذ عقد السبعينيات  ، وتكرس التخلف التعليمي بكافة مراحلة منذ العقد التسعيني من القرن الماضي ، والألفية الجديدة والمستمر حالياً، والمرجح في الاجلين القصير والمتوسط ، وربما البعيد اذا لم تحدث تغيرات كبري سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية  تؤدي إلي تغيير في التعليم والتكوين والثقافة والسياسة  يؤدي إلي مسارات مختلفة  ، أن علامات تدهور العقل النخبوي الرقمي والفعلي العربي بالغة الخطورة ، بكل نُذر ذلك الخطرة ، وخاصة علي مألات التخلف التاريخي المركب  لمجتمعاتنا العربية ! بينما تشير احتجاجات واعتصامات الجامعات الامريكية ، والفرنسية – السوربون ومعهد العلوم السياسية – ، وخاصة جامعات النخبة إلي أن الأجيال الشابة اتخذ بعضها من الثورة الرقمية أداة لمعرفة السياسة الإسرائيلية الكولونيالية الاستيطانية ، وحرب الإبادة علي المدنيين، وتاريخها وتطوراتها ، وانتهاكاتها للقوانين والقرارات الدولية ، وسقوط ادعاءاتها مع السياسة الامريكية والأوروبية علي الصعد الأخلاقية والانسانوية ، وزيف ادعاء معاداة السامية الذي بات سلاحاً يتم إشهاره في وجه اية انتقادات لإسرائيل وساساتها اليمينيين المتطرفين !

المصدر: الأهرام

 

هذه المادة ليس بالضرورة ان تعبر عن رأي الموقع

زر الذهاب إلى الأعلى