
لا شك أن هناك آراء جدلية واسعة حول القبيلة والعشيرة وعلاقتهما بالدولة في العالم العربي، بين من يأخذ بجزء من نظرية ابن خلدون في أنهما عامل محرك في بناء الدولة، ويغفل الجانب الآخر من النظرية ذاتها التي يرى ابن خلدون من خلالها بأن هذه العصبية سرعان ما تتحول إلى عائق أمام بناء الدولة بعد استقرارها! لأن الحكم يتحول من “العصبية” إلى “الترف”، مما يؤدي إلى ضعف الدولة.
يرى علي الوردي أن النزعة القبلية والولاء لها لا يتماشيان مع متطلبات الدولة المدنية الحديثة، وبالتالي يرى تجاوزها ضرورة للتقدم! ويتوافق ذلك مع رؤية المفكر عبد الله العروي، الذي يرى أن الدولة الحديثة يجب أن تتجاوز البنى التقليدية، وتفرض نموذجاً عقلانياً يتجاوز الانتماءات الأولية.
الواقع أن مفهوم القبيلة والعشيرة يأخذ أبعاداً مختلفة في العالم العربي، تختلف من دولة لأخرى ومن منطقة لأخرى، وهناك عامل إضافي مهم هو عامل الزمن وتطور المعارف اللذان جعلا الدور الذي تلعبه القبيلة يختلف باختلاف الزمن.
في سوريا على سبيل المثال، كانت القبيلة حتى خمسينيات القرن الماضي تلعب الدور الأبرز في ظل ضعف أو غياب الدولة، كذلك كانت القبيلة تلعب دوراً اجتماعياً وسياسياً يمنع تغوّل الدولة في كثير من المواقف، ولا شك أن هذا الدور تراجع مع ضرب كثير من القيم التي كانت تميّز التجمعات القبلية خلال العقود الماضية والآليات التي اتّبعتها أجهزة الدولة خلال حقبة البعث بقيادة منظومة الأسد، والتي تحولت مع الزمن إلى مثابة قبيلة بنزعة عصبية مستأثرة بالسلطة لصالح العائلة والطائفة ومنظومة المستفيدين والمطبلين بالوقت نفسه للسلطة، حتى انتهى المطاف بها إلى الزوال بعد أن استنزفت كل شيء تقريباً في الدولة وكرامة ودماء الشعب، وبالتالي أخطر العصبيات التي يمكن تخيلها هي تلك التي تتبناها وتشرعنها وتمارسها السلطة وتجعلها بديلاً عن الدولة ومؤسساتها وتشريعاتها وكفاءات أفرادها.
لقد تم إفراغ القبيلة من محتواها بشكل كامل، وإبقاؤها هياكل دون أي دور وسلطة حقيقية على اتخاذ القرار، وهذا ما يفسر عدم قدرة شيخ القبيلة على لعب أي دور مجدداً خلال فترة غياب السلطة وضعفها بعد قيام الثورة
على الأسد مثلاً، على العكس تماماً، كانت هياكل القبيلة المتآكلة الأكثر نفاقاً للسلطة، والأكثر شراهة للعب أدوار “مغازلة للسلطة” وهي في قمة بطشها بالشعب، بغض النظر عن شكل السلطة وشرعيتها، محلية كانت أم غازية، كيان رسمي أم ميليشيا، وكل ذلك فقط في سبيل التقرب من سلطة الأمر الواقع وأخذ حظوة مصطنعة بدون أي اعتبارات لأي مواقف أو قيم إنسانية أو حتى قبلية جرى التغني بها لأجيال في المجالس أثناء الحديث عن مآثر وقيم ومروءة وشيم وبطولة الأجداد. لذلك ترى أن هذه الهياكل التقليدية التي تتخذ مواقفها بناء على انتهازية شخصية هي الأكثر قدرة على تبديل مواقفها رأساً على عقب بمجرد تغيير السلطة، فيبدأ على هذا النحو نفاقهم للسلطة الجديدة (عدوة السلطة القديمة)، والغريب أن قلوبهم تبقى لفترة طويلة من الزمن معلقة بالسلطة الدموية البائدة، ربما لعدم ثقتهم بأنها فعلاً باتت من الماضي.
لا شك أن هذه المواقف لا تنسحب على جميع أفراد مجتمع القبيلة، لأنه بالنهاية تطور الزمن والتعليم أتاح لشريحة واسعة من أبناء تلك البنى الاجتماعية الخروج من عباءة الأمراض التي أصابت تلك القيم والتماهي مع مفاهيم أكثر صدقاً متأثرة بالحراك الشعبي ومؤثرة فيه، ومتجاوزة كل المفاهيم القديمة التي كانت تقيدها بنزعة عشائرية وقبلية سلبية فرضت عليها نوعاً من العلاقة الأبوية “الوهمية” مع شخصية رمزية تُسمى (شيخ القبيلة) والذي من أجل ذلك يجب أن يحتل مكانة اجتماعية معينة، حتى لو كانت ممارساته ومواقفه متناقضة مع القيم الأخلاقية التي تغنت بها دواوين قبيلته!
تناقض أخلاقي صارخ يبدو أنه يتجه بشكل متسارع للتحرر من تلك المفاهيم البالية، والعصبية السلبية والفروقات العنصرية المتخيلة، والشباب المتعلم اليوم وبشكل خاص الذي أتيحت له الفرصة للعيش في مجتمعات جديدة داخل وخارج سوريا، هو الفئة الأكثر وعياً وقدرة على تجاوز أمراض العصبيات المدمرة.
لا يعني هذا بالطبع أن نغفل الجانب الإيجابي من مرونة المجتمعات القبلية في قدرتها على تعزيز الروابط الاجتماعية والاستقرار المجتمعي خاصة في ظروف عدم استقرار الدولة، لكن الآثار الجانبية المتمثلة بالعصبيات السلبية هي ما يجب التركيز على تجاوزها، واستبدالها بمعايير أكثر واقعية في العلاقات والولاءات، تعتمد فيها أهمية الفرد على ما يستطيع تقديمه لخدمة مجتمعه والمحيطين به، وعلى مجموعة القيم الأخلاقية التي يحملها الفرد وليس على اسمه وعرقه ودينه.
المصدر: تلفزيون سوريا