
لم تتمكّن النخب السورية – بمختلف انتماءاتها – من تجسيد حالة نوعية أو مفصلاً فارقاً في سياق المواجهة بين الشعب السوري ونظام الأسد منذ عام 2011 وحتى الثامن من شهر كانون الأول الماضي، ويعزو بعضهم هذه العطالة في الدور النخبوي إلى انزياح الثورة في وقت مبكر إلى العسكرة، وتحييد الحراك السلمي والمجتمعي موازاة مع سيطرة الحالة العسكرية والفصائلية.
في حين يتحدث آخرون عن دور التدخّل الدولي، بل التحكّم الخارجي بمفاصل القضية السورية وتحوُّل أطراف الصراع المحلّيين إلى كيانات وظيفية ينحصر دورها في الامتثال لرعاتها الخارجيين وما تقتضيه مصالحهم، الأمر الذي دفع بكثير من المثقفين والناشطين السوريين إلى الانزواء خلف الأحداث والاكتفاء بمراقبة المشهد أو الانشغال بتحليل ما يجري وربما التفكير أو الانشغال بما يمكن أن تكون عليه سوريا فيما بعد العهد الأسدي.
النخب ومرحلة ما بعد التحرير
جسّد سقوط الأسد حافزاً لكثير من النخب السورية للعودة بحماس إلى التعاطي مع قضايا الشأن العام سواءٌ من داخل البلاد أو من خارجها، وقد جسّدت مظاهر الندوات والمحاضرات والحوارات المعقودة داخل المدن السورية حالةً من الغبطة باعتبارها نشاطاً مجتمعياً حرّاً لا تقيّده سطوة الحاكم ولا توجهه مؤسسات السلطة، وهذا هو المدخل الصحيح لإيجاد حراك ثقافي يؤسس للاعتراف بالتغاير ومشروعية الاختلاف بالرأي، إلّا أن هذا النزوع النخبوي نحو المصارحة في بسط المسائل والمضيّ في مقاربات أكثر شفافية حيال مرحلة ما بعد الأسد سرعان ما اصطدم بشرخ مباغت تمثّل في الأحداث الدامية التي وقعت في مدن الساحل السوري في السادس من شهر آذار الماضي.
قد بلغت نزعة الاستعلاء لدى هذا الضرب من الخطاب إلى اعتبار جميع السوريين ممّن لا يتماهون معه بأنهم عديمو الضمير، أي لا يكفي من وجهة نظر هؤلاء، أن تدين الجريمة وترفضها، بل عليك أن تنخرط في جوقة التحريض التي يقودها ذلك المثقف النخبوي.
الشيء المهم الذي كشفته أحداث الساحل – شأنها كشأن أي حدث مفصلي – هي أنها عصفت بكثير من الأقنعة الفكرية والأيديولوجية لأصحابها، وأسفرت عن الوجه الحقيقي الكامن خلف القناع، وهذا الأمر قلّما يحدث إلّا في أعقاب حوادث ذات حساسية متجذّرة في البنى الذهنية والنفسية للأفراد، إذ غالباً ما تخفي الانتماءات الكونية الكبرى – الفكرية والسياسية – بشعاراتها ومجمل تجلياتها التعبيرية، انتماءات أخرى خلفها – دينية – طائفية – عرقية – وقد نجد في التاريخ الحديث تجليات عديدة لهذه الظاهرة في أوساط النخب الثقافية والسياسية سواء في الحرب اللبنانية أو في حرب الخليج الأولى والثانية، وقد حملت الثورة السورية في بداياتها جانباً من هذه الظاهرة، ولكنّ الجانب الأكثر وضوحاً بدا أكثر صراحةً في التعبير عن نفسه في ما بعد السادس من آذار، وذلك من خلال انشطار الخطاب النخبوي السوري إلى صنفين، يسعى كلٌّ منهما إلى تحصين سرديته بجملة من الوقائع والتصورات التي تستلهم التجييش والاستثارة العاطفية وغلبة الصوت المرتفع أكثر ممّا تستلهم الحقائق والدقة في النقل والرواية، وخاصة أن الميدان الأرحب لاشتباك هذين الشطرين من الخطاب هو وسائل التواصل الاجتماعي التي توفّر مناخاً خصباً لهذا اللون من الاشتباكات.
في النكوص نحو المظلوميات
1 – يختزل الصنف الأول ما جرى في الساحل السوري في أنه محاولة انقلابية على نظام الحكم، وبالتالي فإن جميع ردّات الفعل المنبثقة من فصائل تابعة لوزارة الدفاع إنما هي في سياق الرد على ما قامت به فلول النظام من اعتداءات، في مسعى واضح للتنكّر لأي تجاوزات من جانب
الفصائل العسكرية على أرواح المدنيين وممتلكاتهم بدوافع طائفية، سواء من خلال عمليات التصفية الجسدية أو الإذلال أو السلب والاغتصاب، وهو وإن اضطر إلى الاعتراف بما وقع بالفعل، فإنه سرعان ما يواجه ذلك بمظلومية سابقة للعرب السنة، متذرّعاً بما مارسه نظام الأسد من إبادة طوال عقود من الزمن، وكأن مظلوميته التي كان هو في موقع الضحية منها، تجيز له أن يتحوّل إلى دور الجلّاد، وبالتالي هو لا يفكر خارج منطق الانتقام، ليس ممن ظلمه أو تسبب في مظلوميته، بل من مواطنين أبرياء، وهو بسلوكه هذا لا يجافي منطق العدالة فحسب، بل أي عرف إنساني أو أخلاقي آخر، فضلاً عن تجرّد هذا المنطق من أي قيمة ثورية ذات صلة بالمسألة الوطنية.
2 – أمّا أصحاب الصنف الثاني من الخطاب النخبوي فحاولوا الاشتغال بحرفية تحريضية على النصف الثاني من الوقائع فحسب، فحذفوا الجزء الأول من المشهد ( المحاولة العسكرية التي استهدفت عناصر الأمن العام ونكّلت بهم) كما أنكروا صلتها بأي طرف إقليمي خارجي، في حين أن داعميها الإقليميين لم ينكروا ذلك( وكالة مهر الإيرانية على سبيل المثال لا الحصر)، فضلاً عن اعتراف قادتها ومموليها على شاشات التلفزة. كما حاولوا اختزال المشهد على أنه قتل لمجرد القتل فحسب، يمارسه العرب السنة ضدّ العلويين، في مسعى واضح لاستدرار العطف الدولي وتأليب الرأي العام على الحكومة السورية، ولإثبات ذلك غالباً ما لجأ هؤلاء إلى حشد أكبر قدر من الوقائع والروايات المُجتزأة من سياقها، بأسلوب يقترب من سرد مشهد روائي يتداخل فيه الخيال مع الواقع، وربما كان بعضها غير صحيح، وهذا ما جعل بعضاً من هؤلاء يتنكّر أو يحذف في اليوم الثاني ما كان قد ادّعاه أو أثبته في اليوم الأول، ومضى هذا الخطاب في نبرته التحريضية مدّعياً أنه لا يجوز لوم الضحية أو إسكاتها عن الصراخ، في حين أن تزييف الوقائع واستثمارها هو الانتهاك الحقيقي لصوت الضحية ومصادرة لحقها في الإفصاح عن وجعها الحقيقي وليس المُستعار. وقد بلغت نزعة الاستعلاء لدى هذا الضرب من الخطاب إلى اعتبار جميع السوريين ممّن لا يتماهون معه بأنهم عديمو الضمير، أي لا يكفي من وجهة نظر هؤلاء، أن تدين الجريمة وترفضها، بل عليك أن تنخرط في جوقة التحريض التي يقودها ذلك المثقف النخبوي الذي لا تستبطن نخبويته أكثر من ( مختار طائفي)، كما يتوجب عليك مشاطرته الجهد في التبشير بنهاية الحكم الجديد في البلاد، وحينها فقط، يمكن أن تحظى بصكّ نظافة الضمير والانتماء إلى الإنسانية.
إن نكوص النخب السورية إلى صراع المظلوميات إنما يجسّد تكريس العجز عن إنتاج خطاب وطني يتّسم أولاً بمزيد من المسؤولية الوطنية والأخلاقية، ويتّسم ثانياً بقدرته على المقاربة الموضوعية والإحاطة الشاملة وغير المجتزأة لقضايا البلاد.
ما هو لافتٌ لدى أصحاب الموقفين معاً هو أن كليهما، ومن خلال خطابه المجافي للحقائق الموضوعية، يسهم في إفراغ مظلوميته التي يتحصّن بها من بعدها الإنساني والأخلاقي معاً، ولئن كانت مظلومية العرب السنة تتجسّد بما مارسه بحقهم نظام الأسد من إبادة واستئصال طوال عقود من الزمن، فإن هذه المظلومية تفقد اعتبارها الإنساني إن تحوّلت إلى سلوك انتقامي يصبح من خلاله مَنْ كان ضحيّةً في الأمس، جلّاداً هذا اليوم. وكذلك إذا اعتقد أصحاب الشطر الثاني من الخطاب أن التأسيس لمظلومية علوية ربما يفضي إلى طمس معالم المظلومية الأولى أو تقويضها، فهذا ضرب من الوهم أيضاً، ذلك أن أهالي الضحايا لم ينتهوا حتى هذه اللحظات من البحث عن رفات أبنائهم، سواء في صحراء تدمر أو في سجن صيدنايا أو أماكن الإبادة الأخرى.
وما هو لافتٌ لدى الطرفين أيضاً، هو أن الحكومة الرسمية للبلاد لم تتنكّر لما حدث في الساحل، ولعل إقدام رئيس الجمهورية على تشكيل لجنة للتحقيق وتقصّي ما حدث هو الدليل الأوضح على الإقرار بها، وهذا أمر في غاية الأهمية، فلمَ الاستمرار في اتهام الحكومة بنكران ما حدث؟ ثم لماذا ارتفعت نبرة التشكيك في عمل اللجنة التي تشكلت بهذا الخصوص قبل أن تعلن عن أي نتيجة؟
ربما يبدو من نافل الكلام أن نكوص النخب السورية إلى صراع المظلوميات إنما يجسّد تكريس العجز عن إنتاج خطاب وطني يتّسم أولاً بمزيد من المسؤولية الوطنية و الأخلاقية، ويتّسم ثانياً بقدرته على المقاربة الموضوعية والإحاطة الشاملة وغير المجتزأة لقضايا البلاد بعيداً عن مؤثرات الرواسب الأيديولوجية والانتماءات ما دون الوطنية. وأخيراً يمكن التأكيد على أن (الوباء الطائفي) في جزء كبير منه، هو مُنتَجٌ نخبوي، أكثر مما هو ظاهرة متجذّرة في المجتمع السوري.
المصدر: تلفزيون سوريا