مصر وهذه المغالطات

عمر سمير

أعلنت الحكومة المصرية، في منتصف الشهر الماضي (مارس/آذار)، خطّتها لرفع الدعم كاملاً عن المحروقات بحلول نهاية عام 2025، بالتوازي مع قرارات رفع أسعار الوقود التي بدأ تطبيقها في 10 إبريل/ نيسان الجاري، وهي التي أصبحت معتادةً ودوريةً منذ توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أواخر عام 2016 ضمن برنامج الإصلاح الهيكلي المتّبع منذ ذلك الحين، وما تبعه من اتّفاقات. تلجأ الحكومة المصرية إلى عدّة حيل وتبريرات لهذا الرفع للدعم، فتارّةً تقول إنه لخفض عجز الموازنة العامّة أو لمواجهة أزمة الديون والعجز التجاري، وتارات تؤكّد أنه لا حلّ للأزمات الهيكلية للاقتصاد المصري إلا بالتخلّي عن هذا الدعم، وهذا يرتبط بعدّة مغالطات.
المغالطة الأولى التي تروّجها الحكومة المصرية دوماً، وتعمّق ترويجها في العشرية السوداء الماضية منذ عهد رئيس الوزراء المحسوب على قوى الثورة، حازم الببلاوي، أن هذه الإجراءات المعروفة باسم إجراءات الإصلاح الهيكلي مصرية خالصة، وهي الدواء المرّ، وهي الحلّ الوحيد، ولم يفرضها أحد على مصر. والحقيقة أنها إجراءاتٌ ارتبطت تاريخياً بالعلاقة مع المؤسّسات المالية الدولية، التي تتدخّل بتلك البرامج لدى الحكومات الراغبة في مزيد من القروض لحلّ أزماتها التي تعمّقها تلك القروض والمشروطيات المرتبطة بها، وهذا لا ينطبق على مصر وحدها، بل على الدول كلّها، المنخرطة في هذه البرامج.

تتعمّد الحكومة المصرية إحداث التباس عند المصريين عند كلّ واحدةٍ من موجات رفع الأسعار لشقّ صفوفهم 

وليس أدلّ على ذلك من تناقض الرفع أخيراً، مع تصريحات لرئيس الوزراء مصطفى مدبولي نفسه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين استبعد زيادة أسعار الوقود إذا استقرّت أسعار النفط العالمية عند 70 دولاراً، فها هي الأسعار مستقرّة تحت 65 دولاراً، وقد تنخفض بسبب الركود الناشئ من الحرب التجارية التي أطلقها ترامب وإدارته على غالبية البلدان، وليس على الصين وحدها، فلماذا إذاً التراجع عن هذا القرار إن كان مصرياً خالصاً أو قراراً فنّياً صحيحاً؟… بل إن الحكومة خطّطت موازنة 2024/2025 على أساس أن سعر برميل البترول 85 دولاراً، فلماذا إذاً عندما يصل سعر برميل البترول إلى 65 دولاراً (ما يعني توفير 20 دولاراً في كلّ برميل) تصرّ الحكومة على رفع الأسعار المحلّية، بدلاً من تخفيض الأسعار. إن لم يكن هذا إمعاناً في التبعية تنفيذاً لتوصيات صندوق النقد الدولي، فماذا يكون؟
تتمثّل المغالطة الثانية في ترويج أن رفع الدعم عن المحروقات سيخفّض فاتورة الدعم عموماً، وهو ما يخفّض عجز الموازنة والديون، وجزء من الحقيقة أن هذا غير صحيح، لأن الحكومة تتحمّل جزءاً كبيراً من سعر النقل للسلع التموينية، والنقل الحكومي. وبالتالي، فإلغاء دعم الوقود، ما لم يقترن بإلغاء الدعم بالكامل، سواء كان نقدياً أو عينياً، فلن تنخفض فاتورة الدعم ككل، كما أن الخبرة التاريخية والعقل ومنطق السوق تشير إلى ارتباط شرطي وخطّي بين ارتفاع أسعار الوقود والتضخّم في أسعار جميع السلع والخدمات، وهذا خطير على المصريين الذين يُعدّ ثلثاهم تحت خطّ الفقر أو في حافّته، وفقاً لتقارير المؤسّسات المالية الدولية ذاتها، التي يفترض أنها توجّه بالتخلّي عن دعم الوقود، وبالتالي فإذا زاد التضخّم والفقر، فإن هذه المؤسّسات ستعود وتوصي برفع مخصّصات برامج الدعم النقدي أو الحماية الاجتماعية المختلفة، للتخفيف من الآثار الكارثية لهذه السياسات المسمّاة “سياسات الإصلاح الهيكلي”، ويفيد خبراء بأنه إذا كانت الحكومة المصرية قد رفعت الأسعار المتعلّقة بالمحروقات أكثر من عشر مرّات في عشر سنين، فلماذا إذاً فاتورة الدعم باتجاه صاعد، ولمَن يذهب هذا الدعم؟
تتعمّد الحكومة أخيراً إحداث اللبس لدى المصريين عند كلّ واحدةٍ من موجات رفع الأسعار لشقّ صفوفهم، فعندما تتكلّم عن فاتورة دعم الطاقة، تقول إن الدعم يذهب إلى الفئات غير المُستحقّة أو الغنية في شكل دعم البنزين. وبالتالي، ما المشكلة في أننا نرفع سعر البنزين على 10%؜ من الأسر في أعلى سلّم الدخل، ممّن يمتلكون سيارة أو اثنتين وثلاثة؟ والحقيقة أن البنزين يحصل على 10% تقريباً من دعم الوقود، غالبية سيارات الأجرة داخل المدن والقرى تعمل بالبنزين منخفض الأوكتان أو السولار، وهي المحروقات التي يُرفَع الدعم عنها أكثر من غيرها، كما في هذه الزيادة التي لن تكون الأخيرة، والتي ارتفع فيها بنزين “80” بقيمة جنيهين، أي 15%، وبنزين “92” بقيمة 2.25 جنيه، أي 15% أيضاً، بينما زاد بنزين السيارات الفارهة “95” بمقدار 1.75 جنيه، أي بنسبة 13% فقط. أي أن الحكومة ترفع الدعم عن وقود الفقراء والطبقة الوسطى الدنيا أكثر بكثير ممّا ترفعه عن بنزين السيارات الفارهة، وهو ما يناقض العدالة الاجتماعية، ويناقض افتراضات الكفاءة في توزيع وإدارة الدعم.
تلوم الحكومة معظم المصريين مع أنهم ضحايا سياسات الإصلاح الهيكلي، التي ارتبطت بالتعويم وموجات التضخّم القاسية، التي لم يتحمّل مثلها شعب آخر في العشرية السوداء المنصرمة، بينما تترك المستفيدين الحقيقيين من دعم الطاقة من أصحاب الصناعات كثيفة الاستهلاك للنفط والغاز، الذين لم يحافظوا على أسعارهم، بل رفعوها محمّلين التكلفة لعموم المصريين، رغم استفادتهم من دعم الطاقة عقوداً، ومن دعم الصادرات الذي يتزايد ولا ينخفض. وبينما تستسهل الحكومة المصرية خفض الإنفاق على الدعم، سواء دعم الوقود أو المزارعين، أو السلع التموينية التي يستفيد منها غالبية المصريين الذين أفقرتهم سياسات الإصلاح الهيكلي، فإنها لا تقترب من ميزانية دعم الصادرات التي تتزايد رغم ضعف المتحقّق منها، ورغم أنه موجّه إلى بضعة آلاف من المُصدِّرين فقط.
المشكلة الأساسية في رفع أسعار الوقود، التي لا تشير الحكومة أو “إعلام السامسونغ” إليها، أنه رغم الادّعاء بأن القرارات تخصّ ملّاك السيارات، إلا أن آثارها التضخّمية تتجاوز تلك الشريحة الصغيرة إلى السلع والخدمات كلّها، التي يستخدمها المواطنون، وتنتقل عبر كلّ وسيلة نقل تسير بالبنزين أو السولار، وربّما لو حلّلت الحكومة الآثار التضخّمية لكلّ منتج بترولي على حدة، قد تستنتج أن البنزين صاحب أكبر معامل ارتباط بين سعره، وبين التضخم وتدهور الدخل الحقيقي للمواطنين، فالبنزين ما دون “95” لا يخدم الأغنياء فقط، بل يفيد الطبقة الوسطى التي تمتلك سياراتٍ، سواء أجرة أو للاستخدام الشخصي ذهاباً وإياباً إلى أشغالهم، كما يستفيد الفقراء من أصحاب وسائقي “التكاتك” والسيارات السوزوكي التي تعمل أجرة في نطاق المدن، ويستخدمها الجمهور العريض من المصريين، فإذا كان رفع سعر البنزين أو السولار مؤذٍ للاقتصاد على هذا النحو، ولن يحقّق خفضاً كبيراً لفاتورة الدعم، فلماذا تستجيب الحكومة لطلبات الصندوق برفعه بدلاً من البحث عن بدائل تمويلية؟ ولماذا لا يعترض الصندوق على تلك السياسات التي يعلم خبراؤه كارثيتها؟
ورغم ترويج الحكومة، والتيار النيوليبرالي في النخبة المصرية الرديفة، أن برامج الإصلاح الهيكلي (تشمل تخلياً تامّاً عن الدعم، تارة بالتحول التدريجي من العيني إلى النقدي، وتارات بالتلاعب بهذا العيني، كما هو الحال مع وزن رغيف الخبز) هي الحلّ، إلا أننا منذ التسعينيّات لم نرَ نتائجَ جوهريةً لتلك البرامج، فرغم برامج الإصلاح الاقتصادي كلّها، وتحسين السياسات الحكومية التي أُعلنت من حكومات مختلفة، لا يزال الاقتصاد يعاني المشكلات الهيكلية نفسها والاختلالات الكلّية ذاتها، حتى صارت مزمنةً وشديدةَ الخطورة، كما هو واضح خصوصاً في ما يتعلّق بالديون والتضخّم والفقر والعجز التجاري، وعجز الموازنة العامّة، وتدهور سعر صرف العملة الوطنية، وكأنما لم تحلّ هذه البرامج والتغييرات شيئاً يمسّ جوهر الأزمة.

تحايل الحكومة المصرية على المؤشّرات لتأكيد صحّة ادعاءاتها بأنها ناجحة في تخفيض العجز

والمغالطة الأكبر أن تتحايل الحكومة المصرية على المؤشّرات في محاولات التفافية لتأكيد صحّة ادعاءاتها بأنها ناجحة في تخفيض العجز، فتقول دوماً، وفي تصاريحها حول الأداء السنوي (أو ربع السنوي) إنها نجحت في تحقيق فائض أولي أو تخفيض العجز الأولي، متجاهلةً أن للعجز عدّة أوجه منها العجز الأولي والعجز النقدي والعجزان الكُليَّان الأولي والختامي، فالعجز الأولي الذي تتفاخر الحكومة بخفضه يعرّف بأنه الفرق بين الإيرادات والمصروفات العامّة، مع استبعاد مُخصّصات فوائد الديون، وهي بند ليس بالهيّن في بلد يشكّل الدين الداخلي والخارجي، وخدمتهما، فيه أكبر بكثير من مجموع النفقات العامّة على الدعم والتعليم والصحّة والسكن، وغيرها من نفقات حكومية، وكأننا نعمل عبيداً لدى الدائنين.
ويطلّ علينا الإعلاميون دوماً بأن أسعار المحروقات في مصر رغم رفع الدعم عنها تظلّ أقلّ من نظيرتها في أوروبا والدول المتقدّمة، بل وكثير من بلدان العالم، في مغالطة كبرى تركّز في أسعار المحروقات من دون النظر لأسعار المحروقين من المصريين في واحدة من أعلى ساعات العمل الأسبوعية مقابل واحد من أدنى الأجور عالمياً، وفي مقارنة لا تستقيم بين بلدان قبل أن تحرّر أسعار الوقود بعقود قد ألزمت قطاعاتها العامّة والخاصّة بحدود دنيا عادلة للأجور، وأنجزت شبكات مواصلات عامّة آدمية، بأسعار مخفّضة جدّاً مقارنةً بالأجور، وتخدّم مدنها وأقاليمها كلّها، وتجعل المواطنين قادرين على الاستغناء عن وسائل النقل الخاصّة تماماً، إذا قرّروا ذلك، بينما لم يستطع المصريون بعد إلزام القطاعين العام والخاص بالحدّ الأدنى للأجور، على ضعفه وتهافته مقابل الأسعار الجنونية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى