
أثناء بحثي للتعرف أكثر على تلك المحفظة الالكترونية التي ستتولى توزيع رواتب موظفي القطاع العام السوري، عرقل متصفح “فايرفوكس” قدرتي على الدخول المباشر لموقع “شام كاش”، وأظهر لي تحذيراً تضمن العبارة التالية: “عند زيارة هذا الموقع، قد يحاول المهاجمون سرقة معلومات مثل كلمات مرورك أو رسائل بريدك الإلكتروني أو بيانات بطاقتك الائتمانية”.
تلك إحدى الزوايا التي ينظر من خلالها مراقبون كُثر، بقلق، حيال قرار وزير المالية باعتماد “شام كاش” رسمياً، بوصفها الوسيلة المسؤولة عن توزيع رواتب جميع موظفي القطاع العام، اعتباراً من الشهر المقبل. وكان صادماً للكثيرين، أن يكون هذا أول قرارات الوزير محمد يسر برنية، بخلفيته التعليمية وسيرته المهنية. فالرجل تابع دراساته بالولايات المتحدة الأميركية وتدرّب في البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بنيويورك عام 1996، وعمل في صندوق النقد العربي، وساهم في إنشاء سوق دمشق للأوراق المالية، بين عامي 2004 و2007. فكيف يُعقل أن يكون أول قرار يصدر عنه، بعيد استلامه لمهامه في نهاية الشهر الفائت، هو إحالة مسؤولية توزيع رواتب موظفي الدولة، إلى تطبيق إلكتروني، مثير للجدل!
يمكن تصنيف المخاوف من القرار في ثلاثة جوانب: الأول، أمني (سيبراني، وسلطوي)، والثاني يتعلّق بمؤشر الاحتكار في ملحقات القرار. أما الثالث فيتعلّق بانعدام الشفافية الذي يبدو أنه سيبقى نهج الحكومة الجديدة، في استمرارٍ للنهج ذاته الذي صبغ أداء السلطة القائمة منذ وصولها إلى الحكم في نهاية العام الفائت.
في الجانب الأمني، تقدّم منصة “سمكس”، المعنية بتعزيز الحقوق الرقمية، تحليلاً مستفيضاً، نشرته عن التطبيق -“شام كاش- مشيرة إلى أنه غير متوفر على متجري “أندرويد” و”أي أو إس”، وتحميله يتم عبر موقع التطبيق حصراً، أي أنه لم يخضع لاختبارات التحقق من الموثوقية التي تجريها متاجر التطبيقات المعتمدة عالمياً. كما أنه لا توجد سياسة واضحة للتطبيق تشرح كيفية حفظ البيانات وهوية الجهة المسؤولة عن حفظها، واحتمالية مشاركتها مع أطراف ثالثة، كالوكالات الحكومية، مثلاً. مع الإشارة إلى أن التطبيق يطلب إعطاء الإذن لكاميرا الهاتف والمصادقة البيومترية، الأمر الذي يشكّل خطراً على الخصوصية، جراء ضعف موثوقية التطبيق، والمخاوف من أمانه وضعف تحصينه الرقمي، من أي عمليات اختراق محتملة.
وتشير المنصة إلى جانب آخر. فالتطبيق يستخدم نهجاً غامضاً جداً في إطار عمله الداخلي، مما يرفع من احتمالية أن يكون أداة مراقبة لجمع البيانات لصالح عمليات “التجسس” المدعومة من الدولة. وهو هاجس أمني سبق أن أشار إليه كثيرون، منذ أن بدأت سلطات الإدارة الجديدة في دمشق، تذهب باتجاه تعميم تجربة اعتماد التطبيق، كمنصة وحيدة للتعاملات المالية الرقمية، ذات الصلة بالدولة. في توسيع لتجربتها في إدلب، التي كانت بدورها، تقوم على التجربة ذاتها. هذا الاتجاه بدأ منذ نهاية العام 2024. أي بعد أسابيع فقط من سيطرة “فصائل ردع العدوان” على السلطة في دمشق. إذ أصدر مصرف سوريا المركزي حينها، تعميماً يطلب من جميع المؤسسات المصرفية توجيه المعنيين لديها بفتح حساب على “شام كاش”. ومنذ مطلع العام الجاري، جرى الحديث عن نيّة السلطات اعتماد التطبيق لتوزيع رواتب موظفي الدولة.
وقد خلص تقرير “سمكس” إلى أن تطبيق “شام كاش” نال 17 نقطة من أصل 22 في عملية تقييم المخاطر (22 هو الأكثر خطورة) وفق فريق التحليل الجنائي في المنصة، التي أوصت بعدم استخدام التطبيق، جراء ما يشوبه من ثغرات وضبابية ومخاوف من انتهاكات واختراقات تهدد سلامة المستخدمين وخصوصية بياناتهم.
وبالانتقال إلى ملحقات القرار، نجد أنه تم اعتماد أكبر شركتَي صرافة كانتا تحتكران هذا القطاع، في عهد النظام البائد، بوصفهما الجهة المعنية بتسليم رواتب الموظفين، بالتنسيق مع “شام كاش”. وهكذا باتت “الهرم” و”الفؤاد”، وبقرار رسمي، تحتكران توزيع رواتب نحو 800 ألف موظف حكومي، شهرياً، بعمولة 5 بالألف.
التبرير لهذا القرار، جاء مشابهاً لتلك التبريرات التي كانت تصدر عن مسؤولي الدولة في عهد النظام البائد. تدفع للمزيد من التساؤلات المعلَّقة بلا إجابات، وتخلو من أي تفاصيل، ويمكن لحظ شيء من الاستغباء للمتلقي، فيها. فالتبرير الرسمي، هو “تسريع عملية الدفع الإلكتروني، وتعزيز مبدأ الشفافية، وتسهيل صرف المستحقات المالية للعاملين في القطاع العام”. وفي البند الأول، يُطرح تساؤل حول مدى توافر البنية التحتية الرقمية الآمنة لاعتماد “شام كاش” رسمياً. وفي البند الثاني، نتساءل، أين الشفافية مع غياب أي معلومات واضحة حول هوية الشركة المطوّرة للتطبيق، والجهة التي تديره! أما البند الثالث من التبرير، فيبدو الأكثر استفزازاً. فالإشارة إلى تسهيل صرف المستحقات المالية للموظفين، يقصد به، تجنب الطوابير الطويلة أمام صرّافات البنوك الحكومية. وهنا يُطرح التساؤل الآتي: ألم تجد حكومتنا الموقّرة حلاً أفضل من الاحتكام لشركتَي صرافة، لحل معضلة الطوابير! هل ستكون فروع “الهرم” و”الفؤاد” كفيلة بإنهاء هذه المعضلة؟ ألم يكن الأجدى أن يُتاح تسليم الرواتب من عدد أكبر من شركات الصرافة، ومن المصارف العامة والخاصة؟ لماذا تم حصر هذه العملية بشركات الصرافة، وتم استبعاد المصارف؟ ولماذا تم حصرها بشركتَي صرافة فقط؟ في معرض الإجابات، فإن تجربتنا مع المشهد الاقتصادي في عهد النظام البائد، تحيلنا إلى مخاوف من تحالف يُعقدُ بالفعل بين متنفذي السلطة الجديدة وحيتان المال والأعمال في البلاد. حيتان لم تُعنَ السلطة الجديدة، حتى، بعملية إعادة تدوير لهم، فظهروا بالأسماء السابقة ذاتها. فقط، غيّروا ألوان العلم.
أحد الأسئلة التي تداعب عقولنا بهذا الصدد، لماذا وافق مسؤول بخبرات وزير المالية الحالي على هذا القرار، المُتخذ فعلياً حتى قبل استلامه لمهامه؟ يحيلنا ذلك إلى أحد جوابين. إما أنه كان المطلوب من الوزير الجديد أن يكون شاهد زور لشرعنة هذا الإجراء، على غرار أدوار الوزراء في عهد النظام البائد. فالدائرة الضيّقة التي تحكم فعلياً، تتخذ القرار، والوزراء أدوارهم تنفيذية فقط. أو أن الوزير اطلع على معطيات دفعته للقبول باتخاذ هذا القرار. وهنا، لا يوجد أي معلومات عن هذه المعطيات، هي تكهنات فقط. لنجد أنفسنا ضائعين مجدداً في متاهات انعدام شفافية الحكومة ورجالاتها. إحدى هذه التكهنات، الحاجة الملحة لوجود قناة للتعامل المالي الالكتروني خارج القنوات الشرعية ذات الصلات الإقليمية والدولية، وذلك جراء العقوبات التي لا تزال مسلّطة على سوريا. وإن اعتمدنا هذا “التكهن” فإنه غير كاف لتفسير سبب اعتماد شركتَي “الهرم” و”الفؤاد”، حصراً، لتسليم الرواتب، ناهيك عن أنه يؤشر إلى خطر استمرار العقوبات بوصفها مدخلاً لتكيّف السلطة الجديدة، مجدداً، مع اقتصاد ظل غير رسمي، بالتعاون مع رجالات العهد البائد ذاتهم الذين كانوا يساعدون السلطة السابقة بهذه المهمة.
وفيما تتفاقم المخاوف من استنساخ تجربة نظام الأسد في إدارة البلاد اقتصادياً، تبقى هناك رهانات إيجابية معقودة على تطورات مُنتظرة. من ذلك، كمثال، تلك الزيارة المرتقبة لوزيرَي الخارجية والمالية وحاكم المركزي السوري إلى واشنطن، علهم ينجحون في حلحلة عقدة العقوبات، أو جانب منها. فسوريا بحاجة ملحة للخروج من شرنقة تلك العزلة المالية والاقتصادية، وآثارها السلبية على السوريّ المُرهَق.
المصدر: المدن