
“الحرب تعني الموت”… احتاج رئيس أركان الجيوش الفرنسية، فابيان ماندون، إلى أن يذكّر بهذه العبارة البديهية وهو يخاطب الشعب الفرنسي، متحدّثاً عن التأهّب للحرب المحتملة التي، وفق ما قال، “تعني فقد كثير من أبنائنا”. ردّات الفعل المحلّية على هذا التصريح شرحت أن هذه العبارة البسيطة ليست مقبولة لدى كثيرين، الذين إن كانوا يريدون الردَّ على الاستفزازات الروسية، إلا أنهم لا يريدون في المقابل أيَّ خسارة. هذا المنطق الغريب، الذي يشترك فيه الفرنسيون مع معظم الأوروبيين، يمكن فهمه، فالحرب كانت بالنسبة إلى أغلب الدول الأوروبية شيئاً من التاريخ، الذي لا يريد أحد أن يتكرّر، أمّا الحروب التي خاضتها هذه البلدان، أو شاركت فيها جزءاً من حلف شمال الأطلسي (ناتو) في دول أخرى، فلا يمكن أن تُعدَّ حروباً حقيقيةً، لأن المواطن العادي لم يشعر بها، ولم تتأثّر بها حياته أو مصالحه.
الحرب التي يُهيِّئ لها المسؤولون الفرنسيون الرأيَ العامَّ مختلفة عن حرب الجماعات الجهادية أو حروب العراق وأفغانستان، فهي يُتوقَّع أن تؤثّر تكلفتها في الاقتصاد، الذي ستكون الحكومة مجبرةً على توجيهه لمصلحة ميزانية الدفاع، ولو على حساب المكتسبات الاجتماعية للمواطنين وبنود الصرف الداعمة لهم. لا يعترض الشبّان الفرنسيون على هذا الخطاب فقط، القائم على الاستنفار الجماعي، ولكنّهم أبدوا اعتراضاً حتى على الخدمة العسكرية الطوعية، التي اقترحها الرئيس إيمانويل ماكرون قبل أيّام، ولا تشمل أيَّ عمل عسكري خارج البلاد.
يرى البعض أن مبالغة الرئيس الفرنسي في تضخيم التهديد الروسي تهدف، في المقام الأول، إلى صرف الانتباه عن الفوضى الداخلية والاقتصاد المتهالك
اتفقت الأحزاب الفرنسية المتشاكسة، في غالبها، على أهمية هذا المُقترَح، فيما ذهبت إحصاءات إلى إعلان أن 81% من الفرنسيين يدعمون الخدمة العسكرية للشباب بين سن 18 – 25 عاماً. يظهر هنا اختلاف بين وجهتَي نظر، الأولى القديمة، التي يعتبر فيها الجيل الحالي أن أمر الحرب بات منذ إلغاء الرئيس جاك شيراك الخدمة العسكرية شيئاً خاصّاً بالعسكريين المحترفين. والثانية الجديدة، التي يحاول المسؤولون العسكريون والسياسيون ترسيخها اليوم، وتقول إنّه ما دامت البلاد في خطر، فإن على الجميع، وخصوصاً الشباب، أن يشاركوا في الدفاع عنها، وأن على الجميع أن يعلموا أنه، ومثلما أن لديهم حقوق مواطنة، فإن عليهم واجبات أيضاً.
وجهة النظر هذه يتبنّاها ماكرون، الذي يريد على ما يبدو ردم الفجوة بين ما هو شعبي وعسكري. ولا ينكر ماكرون إعجابه بتجارب الدول الأوروبية التي سبقت لهذه الاستعدادات كالنرويج، وقد قال تأكيداً لذلك إنه، وفي وقت الأزمات، يمكن للبرلمان أن يُفعِّل الاستدعاء، الذي لن يكون موجّهاً فقط للمتطوّعين الراغبين، بل للجميع.
التذمّر في كلِّ مكان، والإضرابات والتظاهرات وتأثر قطاعات كبيرة بها صار ممّا يُميّز المدن الفرنسية
من أجل اجتذاب الشباب للتجنيد، وبجانب إعلان مبلغ مناسب راتباً، تقدّم الحكومة، التي تنوي الشروع في هذا البرنامج العام المقبل تطمينات بأنه لن يؤثّر في التحصيل الدراسي، بل يمكن أن يقدّم التطوّع العسكري نقاطاً إضافية في الملفّ الأكاديمي، كما يمكن أن يكون مفيداً للسيرة الذاتية.
ما يزيد الصورة قتامةً أن الاقتصاد الفرنسي ليس في أفضل حالاته، فالتذمّر في كلِّ مكان، والإضرابات والتظاهرات وتأثر قطاعات كبيرة بها صار ممّا يُميّز المدن الفرنسية. نجد مظاهر هذه الأزمة المالية العصية على الحلّ والاحتواء أيضاً في التغييرات الحكومية المُتكرِّرة والمُتعدِّدة خلال وقت وجيز. تربط اليسارية من حزب فرنسا الأبية، ماتيلد بانو، بين القضيَّتَيْن، وتقدّم وجهة نظر مغايرة، إذ تعتبر أن مبالغة الرئيس في تضخيم التهديد الروسي تهدف، في المقام الأول، إلى صرف الانتباه عن الفوضى الداخلية والاقتصاد المتهالك.
يصعب على الفرنسيين الانتقال من حالة الارتخاء العسكري إلى حالة التأهب
الأزمة الاقتصادية تفرض سؤالاً آخر في ساحة النقاش الفرنسي: من أين ستُغطَّى نفقات هذا البند الجديد المتعلّق بالتدريب والصرف على هذه الخدمة المُستحدَثة في ظلّ معضلة الدَّين والعجز؟ الرئيس الروسي يراقب ذلك كلّه، ويلعب عليه جيّداً، مدركاً أن الأمر مع الفرنسيين مختلف، وأنهم، بخلاف الجيش والدولة الروسية، ليسوا مستعدّين لتحمّل نفقات الحرب أو المضي بالأمور إلى نهاياتها بشكل جادّ. يتّفق كثيرٌ من المقارنين بين حال البلدَيْن على هذا، فيكفي أن نلتفت للتباين بين نظام الخدمة العسكرية الفرنسي القائم على التطوّع والرغبة الذاتية، وما يزال محلَّ نقاش، ونظيره الروسي الإجباري، الذي لا يخضع الشباب فيه للمجاملة. مع ذلك كلّه، لا يتوعّد الرئيس الروسي أحداً بالحرب، بل يسخر من هذا الأمر، نافياً أن تكون له نيّة غزو أيِّ بلد أوروبي، لكن ما يجعل الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين لا يطمئنون لهذه التصريحات أنه أدلى بتصريحات تطمينية مشابهة قبيل إطلاقه عملية أوكرانيا، بل إنه ما يزال ينكر أيَّ علاقة لبلاده بالمُسيَّرات التي اخترقت الأجواء الأوروبية أخيراً، التي لا يشكّ الأوروبيون في أن مصدرها روسيا.
نقطة الضعف الأهم لدى الفرنسيين صعوبة الانتقال من حالة الارتخاء العسكري، التي استمرّت عقوداً، إلى حالة التأهب والجاهزية. في فترة الانتقال هذه، وريثما يتوافر الدعم الكافي، وتبدأ البلاد بتصنيع سلاحها وتوفير مواردها البشرية واللوجستية، كانت فرنسا، مثل أغلب دول الاتحاد الأوروبي، تأمل بأن تحظى بكلمة تضامن من الرئيس الأميركي ترامب. ولسوء الحظّ كان هذا صريحاً في تعبيره عن عدم اقتناعه بجدوى الدفاع عن أوروبا. ينظر إلى هذا المشهد كلّه نظرةً مختلفة. فعلى عكس الأوروبيين، الذين يعتبرون أوكرانيا حائط صدّ يستحقّ الحماية من أجل إبعاد التهديد الروسي، فإن الرئيس البراغماتي لا يبدو مستعدّاً لخسارة روسيا، ويرى أن أوروبا، وفي مقدمها فرنسا، مخطئة في موقفها الداعم بشكل مفتوح أوكرانيا، لأنهم بهذا الدعم يطيلون أمدَ المعركة، ويمنحون الرئيس فولوديمير زيلينسكي أسباباً جديدة ودوافع للتعنّت ورفض التفاوض.
المصدر: العربي الجديد






