
بغضّ النظر عمَّن قتل ياسر أبو شباب، المتعاون مع الاحتلال، الذي أمِلَ أن يكون فاتحة عهدٍ جديد يطوي صفحة المقاومة، بوصفها فكرة تحمل معنى الرفض أولاً، ثم العمل، فإنّ التداعيات والمعاني التي انبثَّت بمجرَّد انتشار الخبر، وردّات الفعل الفردية والجماعية، في قطاع غزّة وخارجه، تدلُّ على أن تحدِّي دولة الاحتلال ليس مع حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وسائر فصائل المقاومة، ولا مع سلاحها، وتشكيلاتها، وقياداتها، فحسب، إنما قبل ذلك هو مع رفض الشعب في فلسطين التعايش مع الاحتلال، والتماهي مع مخطَّطاته ومشروعاته.
تجاوبت أصداء نبذِ ياسر أبو شباب والتنصُّل منه من تبرُّؤ قبيلته منه (الترابين)، إلى رفضه من عموم الناس في القطاع وخارجه. حدث هذا، لا بقوَّة “حماس” وسلطتها، إذ لا تشير الدلائل (حالياً ومستقبلاً) إلى احتفاظها بسابق سلطتها، بقدر ما تشير إلى ما يقترب من طيّ عهدها المعهود، إلى عهد يتشكَّل بقوى دولية فائقة، في مقدمتها الولايات المتحدة، لا قِبَل لحركة حماس في وضع غزّة بعد الحرب على معاندته؛ فالحركة تدرك أنه لا بدَّ من تنازلاتٍ مقابل آمالٍ باستبقاء ما هو أهمّ، وهو الشعب في غزّة، ومقوِّمات بقائه بحدِّ ذاته، وإن كان لا يمكن إنكار تضرّر هذا الشعب جرَّاء العدوان الإسرائيلي الذي قوّض مقوِّمات الحياة.
ردّات الأفعال الفلسطينية تلك كشفت أنَّ الشعب، وهو في أحلك مراحله، لا يستميله العيش، مجرّد العيش، على حساب تكوينه العميق؛ فمثل تلك الشخصية المُصطَنعة على عجل، استبقت تكوين أرضية لها، هي تلك الأرضية التي يكرِّر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أهمية بنائها بوصفها الأرضية الأيديولوجية التي تُستخلَص منها عناصر التطرُّف، بحسب زعمه، ولم يأبه إلى التقديرات بأنّ “حماس” ما هي إلّا إحدى التعبيرات عن فكر الشعب في فلسطين. وفي غزّة، كان يريد أن يقيم مثالاً شاخصاً، يتوسَّع، ويُمكَّن بقوة خارجية، هي قوة العدو الذي جسّم تلك الويلات كلَّها في إزهاق أرواح عشرات الآلاف، وفي تيتيم عشرات آلاف الأطفال، وفي إشاعة الدمار والخراب، على مدّ البصر والسمع والوجدان.
نتنياهو يعتقد (ويصرّح) أن التحدّي الأكبر أمام قبول إسرائيل هو الشعوب العربية. فماذا يفعل بهذه الشعوب؟
هذا النموذج الذي اشتغل عليه نتنياهو وحكومته، أراده أن يكون واضحاً، لا مواربة فيه، متعاوناً مع إسرائيل، ورأس مشروعها الاحتلالي، في أبشع صوره، وأقسى تجلّياته، ليسود، لا في قطاع غزّة فحسب، بل الدلائل أنه يريده في الضفة الغربية المحتلة، بل لو طاوعته الظروف، فهو يريده، هكذا بسفوره ومباشرته، في المنطقة العربية أو على الأقلّ في المناطق العربية التي يعدّها مجاورة. ذلك أن نتنياهو يعتقد (ويصرّح) أن التحدّي الأكبر أمام قبول إسرائيل هو الشعوب العربية، فماذا يفعل بهذه الشعوب؟ لا بدّ من انتزاع مكوّنها الذي تربّت عليه، وتوارثته جيلاً بعد جيل، من معاني الاعتزاز والإصرار على الحقوق، والتمييز بين العدو والصديق، بين من هو منهم ومن هو أجنبي مُعادٍ لهم.
هل تتغيَّر أفكار الشعوب وثقافتها بهذه السرعة، وبهذا التعجُّل المُتبجِّح؟ هل تُستبدَل بثقافة الشعوب العميقة هذه الظروف القسرية والعدائية، والرضوخ والإذلال؟ حين لا يكفُّ نتنياهو عن ترويج نفسه وبرنامجه السياسي إلى شعبه؛ أن القوة وحدها الأداة الناجعة في تحقيق “السلام”، وأن ما تحقّق من اتفاقات سلام ما كانت لتحدث لولا إدراك “شركائه” في هذه الاتفاقات بتفوُّق إسرائيل الحاسم في القوة، ولو أنه، في الوقت نفسه، وهو يجبرهم على التصالح معه ومع دولته، لا يتوقّف عن الدفع بمشروعه الاحتلالي إلى مداه الأبعد، والأبشع، بانتهاز الفرصة السانحة لضمّ الضفة الغربية، والدوس على أيِّ عائق أمامها من تعهُّدات سابقة، أو اتفاقات. فنتنياهو يعود القهقرى، فينسف اتفاق أوسلو (1993)، واتفاق الخليل (1997، الذي أبرمه نتنياهو بنفسه مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وأدّى إلى تقسيم مدينة الخليل إلى منطقتين: واحدة تشكّل 80% من المساحة الكلّية لمدينة الخليل وتخضع للسيطرة الفلسطينية، وأخرى 20% من مساحة الخليل بقيت تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، فيما نُقِلت الصلاحيات المدنية للسلطة الفلسطينية).
يتشكَّل في غزة واقع جديد بقوى دولية فائقة، في مقدمتها الولايات المتحدة، لا قِبَل لحركة حماس في وضع غزّة بعد الحرب على معاندته
تنصل نتنياهو من اتفاق الخليل، كما تُكثِّف دولة الاحتلال في هذه المرحلة التنكّر له، عبر العمل لفصل الخليل عن الضفة الغربية، ومحاولة تشكيل ما تسمّى “إمارة الخليل”، وهو هدف من الطبيعي أن يواجَه برفض من أهل الخليل، بوصفه تكراراً لتجربة روابط القرى (1978)، حين اصطنعت إسرائيل شخصيات متعاونة معها لتكون ممثّلاً مزعوماً للفلسطينيين، يسمح بتأبيد الاحتلال، تحت شعار تيسير العيش، فيما كان الهدف الحقيقي تشكيلَ جسم عميل للاحتلال للسيطرة على الفلسطينيين في الضفة الغربية، عبر تقليل الاحتكاك المباشر معهم، وترك هذه المهمّة لعملائه. وهذا ما حاول الاحتلال، بعد تدمير غزّة، أنْ يستعيده في القطاع، لكن مع مسار أعمق، لا بدّ أن يكون نتنياهو قد استخلص أهميته، وهو النفاذ إلى أسباب الرفض، إلى الأفكار والتربية والتعليم.
وليس مستغرباً من نتنياهو، ومَن معه في حكومته، مثل هذا العناد والتعالي، ففي الوقت الذي يعودون هم إلى أكثر أفكارهم تطرُّفاً وعنصرية، يريدُ من الفلسطينيين أن يعيدوا خلق أنفسهم تحت سطوة القتل والتجويع والتدمير. وعليه؛ لا يطمح نتنياهو، تحت غرور القوة، إلى خفض سقف السلطة الفلسطينية وإعادة صياغتها بما يشبه نموذجَ ياسر أبو شباب؛ كي لا تعود قادرة على أن تشبه الدولة الفلسطينية، ولا حتى أن يُقلِّص الوجود الفلسطيني المادي في الضفة الغربية والقدس، من خلال حصرهم في تجمُّعاتهم السُّكانية من دون ضمانات استمرار الملاحقة والسيطرة الأمنية… لا يكتفي بذلك، بل يطمح إلى تغيير التصوُّرات والمفاهيم بما يتناسب مع الاستسلام والرضوخ الطوعي، هذا من دون أن يعني ذلك التوقُّف عن خنق الحياة، والاستيلاء على موارد العيش، فلا سلام سياسيّاً ولا حتّى اقتصادياً.
المصدر: العربي الجديد


