
صدرت رواية “الروائي المريب” عن دار نشر رياض الريس للروائي المتميز والمبدع فواز حداد في مطلع عام ٢٠٢٥م. وهي استمرار لسلسلة روايات كتبها فواز حداد تتابع الشأن السوري، منفصلة عن بعضها. قرأتها كلها، وكتبت عنها تباعا.
يطل الروائي المريب على الواقع السوري في فترة حكم الأسد الابن من خلال رصد الواقع الثقافي والأدبي في سورية، في هذه المرحلة، التي توصف عن حق بالدولة الشمولية الرثة، تعتمد القمع البوليسي وتقوم على النهب.
اعتمد فواز حداد تقنية الكتابة على لسان الراوي العليم ومن خلال تقسيم الرواية الى فصول والفصول الى عناوين فرعية بالعشرات تجعلنا أمام تتبع دقيق ومفصل لكل ما اراد الكاتب ان نطلع عليه بصبر ومثابرة.
عاشت سورية فترة حكم الأسد الأب وانضبطت عقارب ساعتها على ايقاع الاجهزة الاستبدادية من خلال هيمنة العسكر والمخابرات. ولذلك كان انتقال السلطة من الأب الميت إلى الابن سلسا وكان لا بد أن تستمر السلطة بكل مكوناتها على قاعدة “الحكم إلى الأبد” والخلود رغم موت جسد الأب واستمرار حكمه عبر ابنه.
تسلط الرواية الضوء على واقع حال الجانب الثقافي والفكري والأدبي في سورية زمن الأسدين، والتركيز على فترة الابن الوريث. وتضع النشاط الأدبي والفكري، الثقافي والصحفي تحت مجهر رقابة عدة أجهزة ومؤسسات في الدولة من اتحاد الكتاب إلى وزارة الاعلام وحتى القيادة القطرية لحزب البعث، كذلك ادارات التحرير في الجرائد اليومية، إضافة إلى المخبرين التابعين لأجهزة الامن، ومخبرين موزعين في أوساط المثقفين، ولا يخلو من متعاونين صحفيين وادباء ينتمون الى جوقة الإشادة بالنظام، من الذين شكلوا النموذج الشائع للكاتب الموالي الملتزم بخط النظام، وكل منهم على علاقة مع أحد الأجهزة، يمثله في الرواية “المسؤول الثقافي في الجمهورية”، ويظهر في الرواية مع الصحفي “الفريد جسّام” الذي جمع حوله مجموعة من الكتاب الأعوان يقودهم كعصابة تئد مواهب الأدباء الشبان في الوسط الثقافي.
تجوس الرواية في مشهد ثقافي لا يفتقر لأنواع شتى ومختلفة من المثقفين المتوزعين في اتحاد الكتاب والجامعات والندوات والمقاهي، يسعى بعضهم لعقد علاقات منفعة وصولية مع السلطة لتسيير اموره سعيا إلى الشهرة والمال، يجري التركيز على المفكر الراديكالي وكبير النقاد، اللذان بحكم الاقدمية يعملان للهيمنة على الحراك الأدبي.
تستهل رواية “الروائي المريب”، بصدور رواية تجري أحداثها في سورية خلال الانتداب الفرنسي. الكاتب مغمور لم يكن من الأوساط المعروفة لطبقة من الادباء الذين تربوا على موائد النظام وفي حضن مخابراته. جعلت الصحفي جسّام يستنفر باحثا عن الكاتب الذي لم يظهر علنا، وأشيع عنه لقب “الشبح”. لقيت الرواية صدى إيجابيا، كانت خارج سياق التبعية المطلقة للنظام. تصدى لها جسام عبر شبكة مريديه والمنتفعين من علاقتهم به، ووشى به للمسؤول الأمني، لمجرد أنه كان في أعماقه يحسد الشبح، ويخاف ان يخطف الاضواء منه، فهو يطمح لأن يصبح روائيا ولم يكتب رواية بعد، انتاجه بعض القصص القصيرة والقصائد الشعرية، فعمل على طمس رواية الشبح وكلف مريديه ليكتبوا عنها وينالوا منها ويظهروا فشلها. وأطلقوا على الكاتب غير المعروف تعبير الكلاسيكي، لئلا يُنظر إليه على انه كاتب تجريبي حداثي، ووصمه بأنه كاتب تقليدي برجوازي، متخلف ورجعي.
لم تكد تهدأ ازمة رواية الشبح الأولى، حتى تلاحقت رواياته التي تناولت سورية بعد الاستقلال وعهود الانقلابات العسكرية، وكانت تومئ بشكل محدد إلى مساوئ حكم العسكر. ما أثار جسّام وعاد يعمل على خلق جبهة حرب جديدة ضد الشبح الذي لم يستطع الوصول له ولا معرفته. ورغم أنه أوغر صدر المسؤول الأمني الثقافي، لكنه لم يغير من حقيقة اعتبار الثقافة والمثقفين والرواية والروائيين أمرا تافها في عرف النظام المهيمن على كل مفاصل حياة السوريين من الولادة إلى القبر.
أما الكاتب المتخفي، الذي بات شبحا روائيا كلاسيكيا، يظهر ويختفي كما يشاء، ومتى يشاء، ولمن يشاء ولا يشاء، يتنقل داخل سورية وخارجها. معتمدا على أنه كاتب مجهول، ينشر رواياته بأسماء مستعارة أو لأشخاص حقيقيين إلى حد يمكن الظن أنه غير موجود أصلا، ولو تتبعنا وجوده وتنقلاته، وفقدناه مرات عدة. سيثبت الشبح وجوده من خلال لقاءاته مع فتاة صحفية وشاعرة دعمها وشجعها في غابة المثقفين. كذلك تبنّيه لاحد الكتاب المغمورين وتأمين ظرف حياتي آمن يساعده على النجاة من المخابرات ليكتب روايته.
وسوف يكون للربيع العربي الذي دخل المشهد السوري كعاصفة غير متوقعة تأثيره في الاحداث بالمظاهرات السلمية، وتحولها الى ثورة شعبية، في مواجهة عنف النظام وتوحشه، ما يعكس تغيرا حقيقيا في حياة السوريين جميعا، ويوقع طائفة من المثقفين في أزمة، فقد كانوا محسوبين على اليسار والتقدم والعلمانية ومن دعاة الثورات، وعندما تحقق ما يدعون إليه، تراجعوا سرا، ولجأوا إلى الضباب، كانوا مع النظام قلبا وقالبا، وكانوا في الوقت نفسه ضد النظام في أحاديثهم الخاصة.
تستعرض الرواية السنوات العجاف، سنوات القتل والقمع والتشريد والخراب كخلفية لأجندة النظام على المستوى الثقافي، خلالها يترقى المسؤول الأمني الثقافي ليصبح حامل ملف الثقافة ومكتبه في القصر الجمهوري. يُنظّر لاستراتيجية جديدة مبتدعا شرعية ثقافية للنظام، تعمل على تغطية كل ما حصل في سورية، واحالة كل الخراب والدمار إلى الإرهابيين وداعش وغيرها، بينما كانت البراميل المتفجرة والكيماوي تقصف الأهالي المدنيين.
حسب تعليمات مسؤول الملف الثقافي، يصبح المطلوب من جسام كتابة رواية، تظهر الحياة في سورية مستقرة آمنة مزدهرة لا شاغل لها إلا الحياة والجنس، ما يقال عنها وعن شعبها مجرد افتراء، وسوف يجري العمل على تسويقها في الغرب، ما يسبغ على النظام مظهرا حضاريا.
هذا جانب من رواية “الروائي المريب” أما الجوانب الأخرى، فالخوض في كواليس الثقافة في سوريا والعالم العربي، من علاقات نفعية وشبكات وجوائز ومظاهر راقية مفبركة ليست الثقافة سوى واجه زائفة تتستر على الفساد المستشري في المؤسسات الثقافية، تتجلى من خلال تتبع نشاطات مثقفين من أمثال كبير النقاد والمفكر الراديكالي، ضحاياهم كثيرون أحدهم الصحفية الجريئة، وذلك بملاحقة مسيرتها ومصيرها طوال عدة عقود من عمر النظام.
بالعودة إلى الروائي الكلاسيكي، تصدر له رواية تفضح النظام وتسلط الضوء على الظلم والفساد، وما يرزح تحته السوريون من قمع، ويواصل بروايات أخرى. تعري النظام وتسهم بإدانته، مع المحافظة على كونه شبحا غير معروف من النظام والوسط الثقافي، بينما يفشل جسّام رغم نجاحاته في كتابة الرواية المنشودة المعول عليها في ارساله إلى العالمية، في تبيّض صفحة النظام. في حين يتقاطع نشاط الشبح وحياته مع حياة الشاعرة، كنهاية سعيدة يفرضها الكاتب انسجاما مع تحرر سورية وسقوط النظام.
في التعقيب على الرواية اقول:
لقد أصبحت من تتبعي للكتابات الروائية للأخ والصديق فواز حداد أدرك انه ممتلئ الى حد الثمالة بقضيتنا السورية، يكتب بقلم مداد كلماته عن بلدنا سورية البحر الذي لا ينضب، سورية الذات والتاريخ والحاضر والشعب والانتماء والضمير والوفاء والصدق والإخلاص والولاء وكذلك الظلم والقهر، والتخلف، والفساد، والدمار، والاحتلال. وكلما أسهب في الكتابة، كلما نمت تجربته، وغدت كشجرة تمتد جذورها إلى أعماق الواقع الإنساني السوري. وامتدت أغصانها وطالت عنان السماء، مداها الفضاء الواسع، وشمس ساطعة لا تغيب.
في الرواية اظهار ما حاول النظام أن يفعله في سورية ليسيطر على جميع مفاصل الحياة التي تعيشها ونعاني منها، رغم تركيزه في الرواية على الجانب الأدبي الروائي والفني والثقافي. ويكشف عن كيف أن كل ما كان يجري في سورية يقع تحت الرصد، والمراقبة، والتحقيق، والمحاسبة.
نعم، كانت سورية ضحية هذه الشمولية القاتلة، والتي تحولت بعد ثورتها في العشرية الاخيرة الى دولة مدمرة، يعيث فيها الجيش والامن والشبيحة والموت والنهب والجوع والتشرد والمخدرات والفساد والمستعمرين بحيث اصبحت سورية بلاد خراب تنعي أهلها كل حين.
في الواقع، يصعب الإحاطة برواية فواز حداد “الروائي المريب”، بانوراما ضخمة لمسيرة الثقافة من أدب وفن في زمن الدولة الشمولية الرثة، تختلط فيها التراجيديا بالكوميديا، لنحصل على ميلودراما أبطالها مثقفو الضباب في زمن كان خراباً.
تظهر سورية بلدا محتلا من قبل النظام على كل المستويات، استطاع فيها النظام الاستيلاء على الانتاج الادبي والفكري وجيرها لمصالحه وادعاءاته، الا ما ندر من الإنتاج المعارض الذي يصدر خارج سورية غالبا.
في هذا الوضع المستعصي، الذي بدا دائما ألا حل له ولا خلاص من العائلة الأسدية، هبت العاصفة القادمة من الشمال، وأنهت نظاما جرى تصميمه ليكون إلى الأبد، وانهار خلال عشرة أيام، ولن تقم له قائمة بعدها.
تسجل الرواية هذا الانتصار، في ذلك اللقاء الأخير بين الروائي والشاعرة.