
قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في كلمة له في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، إن “أوروبا حديقة، لقد بنينا حديقة، أفضل مزيج من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والترابط الاجتماعي استطاعت البشرية أن تبنيه، لكن بقية العالم ليست حديقة تماماً، بقية العالم… أغلب بقية العالم أدغال”. وأضاف: “الأدغال يمكن أن تغزو الحديقة… ومهما كانت الأسوار عاليةً فلن تتمكّن من حماية الحديقة، على البستانيين أن يذهبوا إلى الأدغال، على الأوروبيين أن يكونوا أكثر انخراطاً مع بقية العالم، وإلا فإن بقية العالم سوف تغزو أوروبا”.
أشعلت كلمات بوريل سجالاً لم تُخمِد نيرانه التوضيحات، وكان الخوف الذي تعكسه مؤشّراً على انعكاس مسار تدفّق القوة عالمياً، من توسّع عسكري غربي، قبل قرون، اجتاح معظم أنحاء العالم في موجة تنافس استعماري غربية تبلغ الغاية في الضخامة، إلى تخوّف مُعلَنٍ من أخطارٍ عسكريةٍ يمكن أن تمتدّ من خارج القارّة/ الجنّة، إلى داخلها. وفي مشهد تاريخي غني بالدلالات، كشفت “سي أن أن” الأميركية (20/4/2025) أن فرنسا تحضّر عائلاتها بتوزيع “دليل البقاء في قيد الحياة”.
الدليل سيوزّع على جميع الأسر لمساعدة المواطنين على الاستعداد لمواجهة “تهديدات وشيكة”، ضمنها نزاعات مسلّحة في الأراضي الفرنسية. وأشارت “سي أن أن” كذلك، إلى “رسم بياني من الموقع الحكومي الفرنسي يوضّح المحتويات الموصى بها لمجموعة أدوات البقاء في قيد الحياة”. وبحسب متحدّثة باسم رئيس الوزراء، يهدف الدليل إلى “تشجيع المواطنين على تطوير قدرتهم على الصمود في مواجهة مختلف الأزمات”. والدليل محطّة، ليست الأولى أوروبياً، فقد سبقته تحديثات لكتيّبات مماثلة وُزّعت على ملايين الأسر في السويد وفنلندا، تتضمّن تعليمات حول كيفية الاستعداد لآثار النزاعات العسكرية.
يهدف الدليل إلى “تشجيع المواطنين على تطوير قدرتهم على الصمود في مواجهة مختلف الأزمات“
وعلى وقع دخول الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المكتب البيضاوي، انتشرت أشباح الخوف على أمن أوروبا في معظم عواصمها، وامتلأت لغة الخطابَين السياسي والإعلامي بتصوّرات سوداوية وخطط مسكونة بالذعر للتوسّع في التسلّح والتجنيد الإجباري، والاستعداد لسنوات طويلة من الإنفاق العسكري الكبير، والمحاولات الحثيثة لبناء نظام أمني أوروبي لا يعتمد على الحماية الأميركية (ولا الأطلسية) يصبح سماء “الجنة” ملبّداً بالغيوم، وتتآكل مقولات الازدهار والتفوّق، ويكاد يحلّ محلّها تماماً قاموس التهديدات الوجودية. والخلاف الأميركي الأوروبي بشأن أوكرانيا نموذج للانكشاف الاستراتيجي، الذي تخشى أوروبا عواقبه، وهو ما تعتبره دول أوروبية احتمالاً مرجّحاً، لا مجرّد تخوّف استباقي.
والأزمة التي وجدت أوروبا نفسها فيها، في حرب أوكرانيا، رسمت خطّ مواجهة جديداً روسياً أوروبياً، منفصلاً بشكل ملموس عن خطّ المواجهة الروسي الأطلسي، فالتمدّد الروسي في الأرض، من شبه جزيرة القرم إلى قلب أوكرانيا، سيغيّر معادلة الأمن في عدّة دول أوروبية (في مقدّمتها بولندا وألمانيا). وفي الوقت نفسه سيعيد الحديث المُستجِدّ عن سباق نووي أوروبي محتمل تشكيلَ خريطة الانتشار النووي في العالم، وسيحوّل الحظر الصارم المفروض على كلّ دول العالم غير النووية “ثقباً أسودَ” في النظام الدولي.
الدولة الفرنسية، التي كانت الأعلى صوتاً منذ مطلع القرن، تعبر الفاصل بين خوفٍ على الهُويَّة وشعور بالتهديد الوجودي
وفقدت أوروبا قدراً كبيراً من رخائها الاقتصادي، بسبب فقدان واردات الغاز الروسي الرخيص، وستفقد المزيد مع الارتفاع الكبير، الذي أصبح مؤكّداً، في الإنفاق العسكري. والتهديدات العسكرية المباشرة تترافق مع مواجهات متعدّدة الأطراف حول الهُويَّة، بين يمين صاعد ويسار متآكل ووجود إسلامي يقلق اليمين واليسار معاً.
والدولة الفرنسية، التي كانت الأعلى صوتاً منذ مطلع القرن (في تحدّي ما يهدّد الهُويَّة الأوروبية، عندما توزّع على مواطنيها “دليل البقاء في قيد الحياة”، تعبر الفاصل بين خوفٍ على الهُويَّة وشعور بالتهديد الوجودي. وقد رصد كاتب هذه السطور في مقال سابق عن تخلّي ألمانيا عن استراتيجية تجنّب الحرب (“ألمانيا تودّع استراتيجية تجنُّب الحرب“، “العربي الجديد”، 28/1/2023)، استناداً إلى تقرير صادر عن معهد كونراد إديناور الألماني المرموق، واليوم تودّع دول أوروبية عدّة أيضاً “استراتيجية تجنُّب الحرب” إلى التعايش مع شبح احتمال الحرب، من دون أيّ أوهام عن الجنّة المحصّنة، وعن المظلّات العسكرية الأطلسية والوطنية، وعن النموذج الذي ينبغي أن يحتذي به العالم.
واقعة توزيع “دليل البقاء” هي في حدّ ذاتها رسالةٌ سيدرك دلالاتها كلُّ أوروبي، والسنوات القليلة الماضية هي سنوات تحوّل في التفكير والخطاب، وسقف التوقّع المستقبلي، ودرجة الثقة في حصانة الجنّة الأوروبية.
المصدر: العربي الجديد