
لنبدأ من روايتك الابرز”جنود الله”كيف تنجح الجماعات المتطرفة في استقطاب أشخاص متعلمين وأثرياء نشأوا فى بيئات سوية، اي غابت عنهم الدوافع المعروفة كالفقر أو الجهل؟ هل يرتبط الأمر بذكاء تلك الجماعات مثلا؟
لا يتميز ذكاء هذه الجماعات عن غيرهم من الجماعات الأخرى القومية واليسارية. ولا يحكم توجهاتهم المستوى الاجتماعي ولا التعلم، أي يجب النظر إليهم كما ننظر إلى الآخرين، لكن تقودهم دوافع مختلفة، بصرف النظر عن البيئة التي يظهرون فيها، وإن كانوا أكثر عددا في الطبقات الفقيرة والوسطى، على أن يكون فيها نصيب من التدين، تلقوا الدين في البيت ثم في المدرسة والمسجد والجامعة، يمارسون العبادات بانتظام، لكن الذين يقودون هذه الجماعات عادة يتمتعون بالذكاء، وربما أثرياء ومكتفين ماديا، وعلى درجة جيدة من التعلم. فالتوجه نحو التدين لا تتحكم فيه البيئة فقيرة أو غنية، وانما الأفكار والتوق إلى العدالة، ما يعني الرغبة في التغيير، وعادة تكون راديكالية، إزاء حكومات دكتاتورية.
_عندما قرأت الرواية وجدتها تتنبأ بمستقبل داعش وسيطرتها بذاك الشكل، أم أنها مجرد تسجيل لحالة العراق في ذلك الوقت؟
مجرد أنها تتنبأ بعدم توقف العمل الجهادي، فالعوامل التي أدت اليه كانت ما تزال متوافرة، وهي الرد على الغزو الغربي، ليس في العراق فقط وانما في المنطقة العربية كلها، لهذا كان تعميم الجهاد واقع الحال، بينما كان العراق قضية جاهزة، الصراع فيها محتدما فيها بسبب الغزو الأمريكي، فكانت مجرد مثال، اما الجهاد فقضية مستمرة.
_كتبت فى مقالي عن هذه الرواية، لو إنى مررت بما مر به البطل لتمنيت فقدان الذاكرة انا الاخرى، لكن هل يعتبر فقدان الأب، لذاكرته حتى اسمه رمزًا لفقدان الهوية وسط جحيم العنف والفوضى؟
فقدان الاب للذاكرة في الرواية، تعبير عن عدم القدرة على تحمل كل هذا العنف والدم والقتل، كان بفقدانه الذاكرة يتبرأ مما يجري، أما اسمه فتخليه عن الذات المبصرة وانكار همجية الفعل، وعدم الاعتراف بالفراق النهائي عن ابنه، وأيضا وهو أمر مهم، تخبط البوصلة، فإذا كان قد خسر يساريته، لم يجد تعويضا بالنأي عنها، كان إزاء كارثة، شكلت صدمة، حاول حماية نفسه منها، لكن بذاكرة معطلة، إذ سرعان ما سيتذكر.
_هل يعتبر تطرف الأبن”سامر”رد فعل مباشر على إلحاد الأب؟
مع بداية وعي الأبن سامر، وتعرفه على الدين، كان موقفه على النقيض من أبيه، قد يعتبر لدى فرويد بمثابة قتل الأب. أنا لا أريد موضعة الابن في هذه الخانة، لأنني أجد فرصة تدينه تمنحه الحق في عدم الرضا عن الحاد أبيه، وهو أمر طبيعي، أما التطرف فليس هذا سببه، وانما ما خيم في تلك الفترة، وهو فرض الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وانصياع الأنظمة لها، فالسياسة كان لها دورها، ثم نزعة المقاومة التي انتشرت في ذلك الوقت.
_بالحديث عن إلحاد الأب، هو فى الحقيقة كان يتخبط أكثر بين الإلحاد والإيمان، فهل ترى أن التخبط نتج أيضا عن الدين”التجاري” الذى يصدره”رجال الدين” للناس والذى لا يخدم إلا مصالحهم بدلًا من كونه مصدرًا للروحانية والقيم الأخلاقية؟ وكيف أثّر هذا التوظيف النفعي للدين على رؤية الأب للعقيدة واليقين؟
لا أريد أن نختلق بواعث لتخبط الاب بين الايمان والالحاد، الاب رجل مثقف يعيش عصره وعلى اتصال بالتيارات الفكرية، فهو يساري أحبطه سقوط الاتحاد السوفيتي، وانهيار الشيوعية في البلدان الاشتراكية، وتحولها دفعة واحدة إلى النقيض والتحاقها بشكل متسارع بالدول الرأسمالية. بالنسبة إليه، لم يعد لديه غطاء فكريا، عدا عن احساسه بالخديعة الايديولوجية، ومن قبل كان قد نفض يديه من الدين، لكن العامل الأخلاقي كان لديه قويا وحاضرا، وإذا كان قد استعاده، فبشكل عقلاني، فكان ضد العنف، يفهم الدين بشكله مصدرا للقيم.
_إلى أي مدى لعبت الأحداث السياسية في الرواية دورًا في تشكيل قناعات الابن؟ وهل كان هذا التوجه سيحدث لولا الاحتلال الأمريكي والصراعات الطائفية؟
قناعات الابن كانت وليدة الاحداث السياسية العاصفة، وإذا نظرنا إليه على أنه إرهابي، فذلك من جراء الإرهاب الأمريكي، وفي ظل عدم وجود أيديولوجية يسارية حاملة للمقاومة، فذهب إلى الجماعات الإسلامية، والتحق بها في العراق كمقاتل في سن مبكرة ، لعبت في موقفه البراءة التي فهم فيها العالم، كان بسبب تأثير الدين والعامل القومي الذي لا يغيب عن السوريين، ما أدى به إلى التطوع في المقاومة الإسلامية دفاعا عن العراق، ضد الهجمة العسكرية الأمريكية.
_هل يمكن اعتبار أن الأب في الرواية يمثل “الجيل القديم” الذي عايش القومية والاشتراكية، بينما الابن يمثل “الجيل الجديد” الذي وجد في التطرف ملاذًا؟
يمثل الاب جيل الستينيات وما بعد، بينما الابن يمثل جيل الالفية الجديدة، ليس انه وجد في التطرف ملاذا، لكن في حرب كحرب العراق، كان الإرهاب هو السائد من الأطراف كلها، هذه كانت اللغة الوحيدة في ساحة معركة كان القتل الطريقة الوحيدة للتفاهم، بشكل غير متكافئ، كانت مواجهته بالعمليات الانتحارية والمفخخات والالغام. بينما التدخل الأمريكي وطاول التدمير الشامل والأرض المحروقة. ونلاحظ في تطورات الصراع انحراف نحو الحرب المذهبية والأهلية، ما وضع الجهاد تحت التساؤل والادانة.
_كنت أتمنى أن تكون نهاية الرواية مختلفة بعد الجهود المضنية التي بذلها الأب لاستعادة ابنه، فهل تعكس هذه النهاية رسالة مفادها أن الفوضى والتطرف قدر لا مفر منه، وأن محاولات الإصلاح الفردية لا تكفي لمواجهة دوامة العنف المستمرة؟
اعتقد ان النهاية كانت منطقية وواقعية، لو كانت غير ذلك، لتطلب أن أسبغ عليها ما ليس فيها، بافتعال نهاية تنفي ما توحي به الوقائع والحقائق. ما خلصت إليه، أن الحركات الجهادية لن تتوقف وستتصاعد، ما دامت الأسباب موجودة، فما المبرر، أو الداعي لتوقفها؟ الأحداث أثبتت فيما بعد، أنها توسعت واستفحلت وفي تمدد، بعد مقتل الزرقاوي، ما أنتج تنظيم الدولة أي داعش، والسيطرة على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، وإقامة الخلافة، ثم تمزقها إلى عشرات الفصائل في البلدين، ونشوء حروب مذهبية عبثية مدمرة.
_نصل لرحلتك فيما يشبه التأريخ لسوريا لمحطة رواية”جمهورية الظلام” بعد روايات”السوريون الأعداء، ويوم الحساب”. هل يمكن اعتبار الروايات نوعًا من المحاكمة الرمزية للأنظمة القمعية، أم أنها تقدم اعترافًا ضمنيًا باستحالة التغيير؟
اعتقد أنها تتجاوز فكرة المحاكمات الرمزية للأنظمة القمعية فقط، أنها تشريح لنوع بات ساريا في بلداننا العربية وهو الدولة الشمولية الرثة، دولة ليس لديها ايديولوجية، تعتمد القمع والفساد، كآلية للاستمرار والاستقرار معا. أنظمة تافهة ومنحطة، تسيرها أجهزة امنية وشبيحة (بلطجية)، تترسخ بالقتل والتعذيب حتى الموت والمجازر والمقابر الجماعية…. توحي باستحالة التغيير، وكأنها باقية إلى الأبد، وهذا ليس صحيحا، وما جرى في سوريا مؤخرا، أثبت أنه بعد ما يزيد عن نصف قرن، سقط هذا النظام المجرم، ويأمل السوريون الكثير من المتغيرات التي ستبدل صورة سوريا في الداخل والخارج.
_هل يُنظر إلى الخطابات الفكرية في الروايات بوصفها أدوات مقاومة، أم أنها مجرد ترف نظري لا تأثير له على الواقع؟
ليست خطابات بقدر ما هي أفكار تجول في رأس كل واحد منا، انها منظومات فكرية تتجدد على وقع الأحداث على أرض الواقع، سواء كانت هزائم أو انتصارات، انها حراك أيضا يدور في داخلنا، وليست غير مجدية في أزمنة الرعب والموت؛ يمكن وصف مآلاتها بكل وضوح بأنه قد لا يكون لنا حاضر ولا مستقبل إن لم نسارع ونفعل شيئا، وننقذ ما يمكن إنقاذه، إنها مسألة حياة أو موت. وإذا كان ثمة أمل فالأفكار ليس ترفا نظريا، في النهاية تفلح في التأثير بالواقع ولو على المدى الطويل.
_هل يعاني المثقف في الروايات من صراع ذاتي بين الجبن والبطولة، أم أن البطولة ليست سوى وهم يتلاشى عند أول اختبار؟
المثقف ليس مقاتلا يحمل بندقية، وليس قويا للتصدي لآلية القمع. لا يمكن الحكم على بطولاته إلا بجرأته على قول الحقيقة، وشجاعته في التصدي فكريا لتفاهة السلطة والتسلط، وفضحها وعدم القبول بها. ومن المؤسف أن ما أبداه الكثير من المثقفين كان الجبن، وكانوا شركاء للطغيان، وأدواته في تسويغ الاستبداد، وإيجاد المبررات له، فكانوا ابواق دعاية، بترجيح مصالحهم الشخصية، والانتفاع من تقلد المناصب، ولو انهم اخذوا جانبه خوفا منه.
_هل ترى أن جمهورية الظلام زالت حاليا؟
نعم، زالت، أو أنها في طريقها إلى الزوال، واستراحت سوريا منها، وتنفست عبير الحرية، لا أجهزة أمن مسلطة، ولا مداهمات ليلية، لا تعذيب، ولا تحقيقات، لا رقابة، ومخبرين ولا وسائل تنصت، لا سجون ولا قتل… انها الحرية، الحرية التي لا بديل لها ولا عنها.
_تحارب التطرف الدينى فى كل رواياتك تقريبا، ما موقفك من السلطات السورية الجديدة وخلفيتها الارهابية؟ وكيف تتصور مستقبل البلاد عموما والثقافة خاصة فى ظل هذه السلطة الجديدة؟
انتقد التطرف بأنواعه الديني والعلماني والسياسي والايديولوجي، كذلك الاتجاهات الفكرية المتشددة، فهي ليست معصومة من التطرف، قابليتها للانحراف تؤهلها لمباركة العنف، حتى الديمقراطية لا أمان لها، ها هي في الغرب تميل نحو العنصرية وتشجع عليها، بدعوى حرية الرأي. كما نلاحظ تلاعبا بسيادة القانون في العالم، فهو لا يسري على الدول القوية، وتحرم منه الدول الضعيفة.
بالنسبة لمستقبل البلاد في ظل السلطة الجديدة، يصعب التنبؤ، فالناس ما زالت في افراحها، لكن الخطوات الأولى مبشرة، لا اريد أن أكون متشائما، ما يلاحظ هو ان السلطة الجديدة واعية لمتطلبات الناس، لكن قدراتها الاقتصادية ضعيفة جدا، لم يدع لصوص العهد البائد شيئا، لقد نهبوا البلد، سوريا تسترد أنفاسها على درب التعافي، لكن في وضع يمكن وصفه كبداية إنه تحت الصفر.
_ماذا سيفعل مثقفو سوريا لو أنتجت السلطة الجديدة آليات القمع نفسها، ولكن تحت شعار”تطبيق الشريعة”، كما حدث في تجارب أخرى؟
لكل بلد خصوصيته، ابتلت سوريا بدكتاتورية إجرامية من طراز منحط عانى منها السوريون، ولم يعد لديهم أي استعداد للصمت عن أي تجاوزات تقيد الحريات، وتمارس القمع تحت أي عنوان، ومنها تطبيق الشريعة، نريد دولة مدنية وديمقراطية ونظام دستوري، وسيادة القانون. لقد جربنا بما فيه أكثر من الكفاية، وتعلمنا الدرس مضاعفا، ودفعنا الثمن مليون شهيد وتهجير نصف الشعب السوري. الشعب حذر جدا، لا يعتقد بالأقوال، بل بالأفعال.
_ما جديدك القادم؟
رواية عن الثقافة والمثقفين في ظل الدولة الشمولية الرثة، ضرورة هذه الرواية، تأمل حركة الثقافة طوال نصف قرن من خلال المثقفين. انها محاولة كي نجيل البصر مليا في الدولة الشمولية التي ليست إلى انكفاء، وانما تتمدد في العالم، تحمل معها هذه الرثاثة القبيحة من فضائح الفساد التي تطاول قادتها والنخب ورجال الاعمال، وتتسلل الى الثقافة.
المصدر: مجلة حرف العدد ٦٥
القاهرة – مارس 2025