قراءة في رواية: المترجم الخائن

أحمد العربي

فواز حداد، روائي سوري متميز، كتب عبر عقود عن سورية وما حولها وتفاعلاتها الاجتماعية والسياسية ، ومع دول الجوار والعالم، في أعمال روائية متتالية، تكاد تكون توثيقا لسورية الثقافية والمجتمع عموما، وفي تاريخها الحديث.

المترجم الخائن، رواية تغطي الواقع الثقافي السوري في مطلع الألفية الثالثة الجديدة. تبدأ الرواية راصدة حياة “حامد” الشاب الدمشقي المنشغل في أعمال الترجمة الروائية، حامد يؤمن أن الرواية المترجمة من لغة الى لغة اخرى، تفقد روح لغتها الأولى، وتلبس روحا جديدة في اللغة المترجمة إليها، لذلك كان حامد يهتم بالغوص عميقا بالمعنى الروائي، أكثر منه الترجمة الحرفية، وكان في بعض الأحيان، يغير في النص قليلا ليكون أقرب لروح الواقع الذي يعيش، كان يعيش حياة رتيبة وعادية، لكن ذلك لن يستمر فقد وقع في خطأ ترجمة كبير، لقد ترجم رواية تتحدث عن شاب أفريقي ذهب للغرب و درس وتفوق واستقر في أوروبا تاركا بلده الذي يعيش الفقر والتخلف، غير حامد في نهاية الرواية وجعل الشاب يعود إلى بلده ليقوم بدوره في تقدمه، لكن الأمر لا يمر وسرعان ما يتم تسريب ذلك إلى الصحافة التي يتربع على عرشها صحفيون مؤبدون مثل  سدنة المعابد، وعلى رأسهم الصحفي “شريف”، الذي اعتبر أن ذلك خيانة للأمانة الأدبية للنص الأصلي، وأن ذلك لا يجوز، وكتب يشهر بالمترجم حامد ، لكن حامد لم يصمت وكتب ردا على الصحفي لكن لم ينشر، وللصحفي له جماعته وتاريخه و حضورا قويا ، صحفي يعرف كيف يخدم السلطة ويتلون حسب تحولاتها، أنه الصحفي المغطي  للعيوب، والمبرر للسلوكيات السياسية ، لذلك سرعان ما ينكفئ حامد مخذولا، وزاد مأساة حامد ان استدعي الى أحد فروع الأمن، حيث استقبل بحفاوة وتم التعامل معه بليونة مستغربة، وحدثه المسؤول بلغة معارضة زاودت على لغة المعارضة الضعيفة والمنتهكة، وأكد له ان كل المطالب التي يريدها المعارضون هي مطالب السلطة، لكن لها توقيتها، أعجب حامد بمنطق المسؤول، وتعجب ايضا، وانتهت المقابلة ان على حامد ان يسحب مقالته التي يرد بها على الصحفي شريف، وعندما حاول الاحتجاج، واجهه المسؤول بالحديث عن مصلحة الوطن، وبلهجة ذكرته بالإفرع  الأمنية والقمع والتعذيب المرتبط بها، سحب رده على الصحافي شريف. لكن الأمر لم ينتهي هنا، بل زاد عليه إن علم الناقد “جميل” بالتغيير الذي أصاب نهاية الراوية بعد صدورها مجددا، وأعاد الهجوم على حامد ، حامد ضبط بالجرم، تغيير خاتمة الرواية، وبدأت حملة جديدة على يد الناقد الأدبي جميل وحولها لتكون حربا على المحرفين والخائنين  للأمانة العلمية والأعمال الروائية المترجمة، لقد أصبحت سمعة حامد بالحضيض، ولم يعد أحد يعتمد عليه في الترجمة ابدا، وهذا يعني أن لقمة عيشه أصبحت في مهب الريح، وأنه أصبح مطاردا من عصبة الأدب،  ومطرود من العمل وجائع وعاطل عن العمل وحزين. في غمرة ذلك تعرف على الرجل ذى الوجه المشوه الذي يعطي انطباعا أنه من المجرمين، محمود ذلك العامل الفقير الذي تعرض لحادث شوه وجهه، فقد على إثرها أي فرصة للعمل، لجأ الى حامد، اعطاه بعض المال ليطعم عائلته،  حامد غير قادر على تأمين  فرصة عمل له ، أن محمود مستعد ان يخيف ويضرب أي أحد كآخر طريق للقمة العيش، أعطاه بعض ماله رغم قلته، وأخبره أنه مثله بلا عمل، ووعده محمود بالمساعدة، دون أن يعرف حامد كيف ذلك. ولم يمض وقت طويل حتى اتصل  “عبد الرحيم” رئيس تحرير إحدى الدوريات بحامد، والتقى به، وطلب منه العمل معه في مشروع ثقافي ، يكون دور حامد فيه الرصد للإنتاج الأدبي ونقده وتقديمه في المشروع الجديد، دعاه للعمل رغم معرفته ان حامد قد خسر سمعته الادبية، ومع ذلك سيعمل لان محمود صديقة قد الزم رئيس التحرير بذلك تحت التهديد، ولحل مشكلة حامد والحظر الادبي عليه، تم الاتفاق أن ينشر أعماله تحت اسم مستعار جديد، وهكذا كان. ولم يمضي وقت طويل على عمل حامد في المتابعات الادبية، إلا ويتصل به أحد الوجوه الأدبية “حكيم” ويلتقي به ويعرض عليه العمل معه في ترجمة روايات حديثة رومانسية بسيطة تقترب من غرائز الناس سطحية، لكنها تباع بكثرة، قبل حامد، ولأن حكيم يعرف مشكلة حامد مع عصابة الأدب ومحتكريه، فقد اتفقا على اسم سري جديد، لقد أصبح حامد بثلاث اسماء، حاول حامد أن يلبس ثلاث شخصيات في نفس الوقت، جعلته يعاني من ذلك كثيرا. حامد أصبح ينتج وأعاد التفكير بعائلته، زوجته وولديه، زوجته التي تركته لتذهب لبيت اهلها، اختلافات دائمة وحياة بينهما سيئة،  فقره وبطالته جعلت حياتهما مستحيلة ، سرعان ما حاول أن يسترد عائلته وأولاده، زوجته رفضت، وهو مازال يعيش صراعاته النفسية وأنه ثلاثة أشخاص تسكن واحدا. لم تنتهي مشكلة حامد هنا، بل سيلتقي به الروائي “فاروط” ، الذي سيعرض عليه مقايضة اساسها، أنه سيعمل من موقعه الثقافي ومع شبكة علاقاته على إعادة الاعتبار لحامد في عالم الترجمة، لكن عليه أولا أن يقرأ الكثير من الروايات، ويقدم أفكارها الأساسية لفاروط ليستفيد منها في عمله الروائي المتواصل، ولكي لا يكشف أمره عليه ان يتعامل معه في اسم سري جديد، لقد أصبح حامد يحمل أربع شخصيات، تعمل بدأب متواصل، المتابعة الأدبية والترجمة الروائية، والقراءة واستخلاص الأفكار الاساسية، والكل يلاحقه ويطالبه بما انتج. في مستوى أخر سمع حامد بقصة الروائي “سميح” الذي أنجز أول عمل روائي له وأنه لاقى إقبالا ، وأن عمله الثاني واجهته هجمة نقدية ، جعلته ينكفئ وينسحب من العمل الأدبي، استعان حامد بصديقه “سامي” الذي ترك العلم مبكرا وعمل في السوق ثم معقب معاملات ثم ميسر أعمال وحلّال عقد، بعد ان اصبح يعرف تلافيف وخفايا الواقع وقواه المتحكمة فيه وشبكة المصالح، الاقتصادية وغيرها، وترابطها مع شبكة الحكم من مخابرات وجهات الدولة المختلفة، كان يخاف من القضايا الامنية، اما غيرها فلها عنده حل مهما استعصت. وصل حامد للكاتب سميح وجده إنسان فقير يعيش وحدته القاتلة، خائف ، منعزل، يعتكف على كتابة رواية بآلاف الصفحات، منسحب من الحياة ، عرف منه حكايته مع عصابة مافيا الأدب التي إعدمته وهو حي، يحدثه عن ما حصل معه، ويتأثر، يسقط سميح في الشارع ويرتطم رأسه بالأرض، وسرعان ما يموت. وفي هذه الأثناء عرض على حامد  عمل شعري لنقده ومدحه لشاعرة صاعدة اسمها “لميس”، والتقى بها انها “ليلى”، صديقة طفولته وبداية شبابه، حبه الأول والوحيد، كانت في حييه حيث يسكن في مخيم فلسطين، كبر وكبرت، هو أحبها وهي تكبره بسبع سنين، اعتبرته دائما الطفل الصغير المتعلق بها، لم تفكر به كحبيب ابدا، لذلك اختارت أن تحب الشاب الفلسطيني “عباس” المنتمي للثورة الفلسطينية واحد كوادرها، تزوجا،  صارت رفيقة ترحاله بين سورية ولبنان، عايشت الآمال على الثورة الفلسطينية معه، وعاشت الانكسارات والخيبات ايضا، وكان آخرها الرحيل والاستقرار في تونس، عاش عباس الخيبات والانكسارات في نفسه، صار ثوريا مستقيلا مرغما على التقاعد، يقضي أوقاته بالتسكع والسكر والمعاناة، حوارات متشنجة، اتهامات واتهامات متبادلة وعودة للبيت ليرفع معاناته، لكنه في إحدى لياليه يصاب بطلق ناري أثر مشاجرة بين من كانوا ثوار ويموت. تعود ليلى إلى الشام مجددا، أرملة وزوجة شهيد، تتعرف على النحات  العراقي حسين الذي يعشقها، وتحبه، لكنها تعاني منه ايضا، فهو هارب من العراق من ظلم صدام، والمستقر في دمشق، ويعتبر نفسه في منفى، النحت طريقته للاستمرار بالحياة وإعلان انسانيته، أحب ليلى وسرعان ما عاش هاجس امتلاكها، حاول ان يتزوجها ، فرفضت، لأنها تخاف أن يستعبدها هذا الحبيب المجنون، تعاني دوما من تخوينه لها وأنها تمارس الجنس مع غيره، رغم أنه ليس وفيا لها ابدا، عانت منه وفكرت أن تحب أحدهم انتقاما منه، وتعرفت على شاعر مشهور، والتقت به ، وعندما التقيا في معتكفه الجميل ، أعلنت رغبتها الجنسية له، ظهر أنه ذي مشاعر أنثوية وعادت خائبة. النحات حسين يتابع ما يحدث في العراق، فبعد أحداث ٢٠٠١ وضرب أمريكا واحتلال أفغانستان ومن ثم احتلال أمريكا للعراق، ومتابعة سقوط بغداد على شاشات التلفزيون، وإسقاط تمثال صدام، ورمزيته، فرح حسين بسقوط صدام والدكتاتورية هناك، لكنه خاف من احتلال الامريكان للعراق، لم يحتمل عاد للعراق إلى قريته في البصرة في الجنوب، وجد اهله قد توفي أغلبهم وحياتهم على تعاستها، غادر الى بغداد، وجد أن الأمريكان يتصرفوا كمستعمر بأسوأ أنواع القتل والقمع والبطش بحق الشعب العراقي، وأن العراقيين تفرقوا بين من مع المحتل ومن ضده، وبدأت تظهر في العراق معالم صراع أهلي طائفي واثني، وغادر مجددا إلى دمشق، أصبح أكثر حزنا وألما لما حصل في العراق، لم يعد يعمل، فقد الدافع ، ماتت القضية في اعماقه، لقد خسر العراق، صار يرتاد الملاهي ويشرب وفي يوم القى بنفسه من سيارة التاكسي وهو في حالة السكر، ضرب رأسه بالرصيف ، تدهسه سيارة أخرى ويموت، كانت نهاية فاجعة لحسين العراقي. عادت ليلى وحيدة بعد أن مات حبيبها الجديد، بدأت تكتب شعرا يغالي في استحضار الجسد والتحدث عن المناطق الحميمة في الجسم، واستحضار الفعل الجنسي، وكشف أغوار النفس، استقبلت في الأوساط الأدبية  بترحاب،  وأنها ثورة في الشعر، الذي كلما صار أكثر إثارة واباحية اعتبر أكثر تقدما، ومواكبا للعصر والتقدم، كان لابد أن تستغل السلطة الموجة وتدعم هكذا شعر، لانها رائدة للتقدم والحرية بكل معانيها، وبهذا الشكل وصلت ليلى إلى حامد ليعرف انها تخفت باسم لميس كما تخفى هو بثلاثة أسماء، وهما يهربان من شخصيتهما الحقيقية، طلبت منه أن لا يهتم بشعرها، لأنها هي لم تعد تهتم به، بعد أن خسرت من تحب ومن يستحق أن تكتب الشعر له، و غادرته. تسلط فاروط على حامد وصار يلاحقه كل الوقت ويطالبه بالمزيد من قراءة الروايات واعطائه الأفكار منها، أصبح عبئا عليه، ولم يقدم له أي مقابل، وصار يهدده ايضا، احس حامد أن في سلوك فاروط ما يوحي بكونه قاتل، وأن حامد قد يكون ضحيته، وعندها قرر حامد ان يستبق الحدث ويقتل فاروط،  استدعى فاروط على عجل في منتصف الليل إلى جسر الرئيس في دمشق، وهناك تحاورا، وفي لحظة حمله وكاد يرميه من أعلى الجسر، لكنه في لحظة يحضر وعيه له، ويدرك الفرق بين الرواية والحقيقة ، وأنه، لن يختم حكايته الواقعية بأن يصبح مجرما، ولو أن ذلك ممكن روائيا، ويترك فاروط يهرب ناجيا بروحه.

هنا تنتهي الرواية. وفي تحليلها نقول، إن صنعة السرد الأدبي الفني للرواية محكمة، وأننا نتابع حياة اشخاصها بدقة ، في كل مفاصلها، وأن السرد يغطي معلومات تكاد تصل إلى دراسة وصفية تحليلية لواقع المثقف والأديب والثقافة والأدب السوري، المثقف المنتمي لذاته ومصلحته، على حساب كل شيء، يعرف الصحافي كيف يكون بوق للنظام ويمالئ في كل شيء ليبقى في واجهة الصورة،  ويعرف الروائي كيف يركب موجات الأدب كاملة، ويبقى رافعا شعار المرحلة التي تمر بها سورية، الأدب الاشتراكي، الملتزم والمنتمي الخ، المهم أن يكون لسان حال السلطة وتوجهاتها، يأكل من خبزها ويضرب في سيفها، ويتصدر واجهتها، الاستقراء في الرواية عميق ومفصل ، تعب الكاتب كثيرا في متابعته بدأبه المعهود، أن الرواية شهادة على الواقع الثقافي في العقود السابقة على إصدارها، وهذا مجد لها وللكاتب. ولا تبخل الرواية علينا في إظهار وجه الواقع العام، السلطة والناس، ووجه الزمن الذي نمر به، لفلسطين وحكايتها حاضرة، وكذلك لبنان والعراق، الرواية تريد أن تقول ان أزمتنا  ليست سورية فقط بل عربية أيضا. فبعد احتلال فلسطين قبل ستين عاما، ها هي بغداد تحتل قبل سنوات، وما زلنا نرزح  تحت سلطة الاستبداد والنهب والإجرام، وهذه النخبة السياسية والثقافية التي تسوس البلاد العباد، كما العبيد، الأديب الحقيقي يموت عندما يمنع من الانتاج، ولو بقي حيا، ويموت في الرواية بشكل عبثي لتكتمل المأساة.

.اخيرا الرواية تستحق دراسة أوفى واوسع، يكفيها أنها شهادة على واقع سورية الذي  لم ينتهي حاله السيء، وعلى أهم جوانبه : الثقافة والمثقفين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى