الاقتصاد السوري بين المركزية واللامركزية.. تحوّل ضروري أم مخاطرة محسوبة؟

مالك الحافظ

تبرز المسألة الاقتصادية في سوريا بوصفها أحد أعقد تجليات الصراع ما بعد العسكري، ليس فقط من زاوية إعادة الإعمار أو التنمية، وإنما أيضاً من جهة البنية الاقتصادية التي ستُبنى عليها الدولة الجديدة. فهل المطلوب اليوم إعادة تكريس النموذج المركزي القائم على إدارة الاقتصاد من العاصمة، أم الاتجاه نحو شكل من أشكال اللامركزية الاقتصادية؟ وهل هذا التحوّل ضرورة تاريخية أم خيار محفوف بالتحديات؟

ما بين المركزية السياسية والجمود الاقتصادي

منذ الاستقلال، سارت سوريا في اتجاه اقتصادٍ متمركزٍ بشدة في يد الدولة، سواء في ظل السياسات الاشتراكية بعد الستينيات، أو خلال فترة “التحرير المنضبط” في العقود الأخيرة من حكم نظام الأسد.

وقد شكّل المركز الاقتصادي في دمشق القلب النابض لجميع مفاصل إدارة الموارد، والتخطيط، والتجارة، والموازنات، بحيث بقيت المؤسسات السيادية هي الفاعل المركزي في تنظيم السوق وتوجيه الإنتاج والاستهلاك، حتى في ظل انفتاح محدود على القطاع الخاص.

لم تكن هذه المركزية الاقتصادية تحصيل حاصل فحسب، بقدر ما جاءت كتعبير عن رؤية شمولية للدولة، رأت في ذاتها كياناً يمتلك القدرة الحصرية على التخطيط والتوزيع والرقابة. فمنذ سياسات التأميم في ستينيات القرن العشرين، ومروراً ببنية “الاقتصاد القومي” في عهد النظام البعثي السابق، تكرّست نزعة صارمة جعلت من العاصمة مركزاً للقرار ونقطة الاحتكار المعرفي والاقتصادي، ما أسّس لما يمكن تسميته بـ”المقدّس المركزي” في البنية السورية.

لكن الحرب وما تبعها من تصدّع في الجغرافيا والسلطة، أعادت فتح السؤال حول مدى جدوى هذا المنطق المركزي، خاصة في بلدٍ يعاني من شروخ مناطقية عميقة، وتفاوتات تنموية صارخة، وبنى محلية بدأت تفرض ذاتها كأمر واقع.
لقد أدى تصدع نظام الأسد بعد عام 2011 إلى إضعاف المركز بشكل غير مسبوق، وفتح الباب أمام أشكال تجريبية من اللامركزية القسرية، تمثّلت في المجالس المحلية في الشمال، والإدارة الذاتية في الشمال الشرقي، إضافة إلى أنماط الحوكمة الهشة في مناطق خرجت عن سلطة نظام الأسد والدولة المركزية.

اللامركزية الاقتصادية.. استجابة ظرفية أم رؤية لإعادة البناء؟

تقوم اللامركزية الاقتصادية على توزيع الصلاحيات المالية والتنموية بين مستويات الحكم المختلفة؛ بما يتيح مرونة في الاستجابة للحاجات المتمايزة للمناطق. لكن اللامركزية، كما يوضح خبير السياسات العامة جان-كلود توينيغ، لا تقتصر على إعادة توزيع إداري للموارد، وإنما تعكس محاولة لإعادة ترسيخ حضور الدولة عبر تقوية بنيات الثقة المؤسسية من القاعدة إلى القمة.

في السياق السوري، وبعد تصدّع السلطة المركزية المشار إليه آنفاً، باتت اللامركزية تُطرح، كأمر واقع فرضته الجغرافيا السياسية الجديدة وتشظي أدوات الإدارة. فقد نشأت أنماط متباينة من الحوكمة المحلية في مناطق مختلفة، مثل المجالس المحلية في الشمال السوري التي أدارت بعض الشؤون الاقتصادية في ظروف هشّة، أو بعض أشكال التنظيم المالي في شمال شرقي سوريا، بما فيها مشاريع دعم دولي مرتبطة بجهات أمر واقع.

لكن هذه النماذج، وعلى اختلافها، لم تنطلق من رؤية اقتصادية وطنية موحّدة، وإنما من استجابات ظرفية لفراغ مؤسسي، ما يجعل تقييمها يتطلّب الحذر وعدم الإسقاط، خصوصاً في ظل التداخل بين المحلي والسياسي والأمني. من هنا، لا يمكن اعتبار هذه التجارب مصدراً مباشراً للنمذجة، بقدر ما يجب قراءتها كمؤشرات على الحاجة إلى إطار اقتصادي مرن ومتعدّد المستويات، من دون أن يكون مفككاً أو خاضعاً لأجندات محلية معزولة.

وفقاً لمقاربات مثل تلك التي طرحها أنتوني جيدنز في نظريته حول “إعادة تنظيم الثقة”، فإن أي مشروع لامركزي في سياق ما بعد الصراع يحتاج إلى مؤسسات تربط الهويات المحلية بالمصلحة الوطنية، عبر جسور من الشرعية القانونية، والشفافية، والتكامل القطاعي، وليس عبر تعزيز الانقسام الإداري أو الاحتكام لميزان القوة على الأرض.
يمكن للحالة العراقية أن تضيء جانباً من النقاش السوري حول اللامركزية الاقتصادية، من حيث كونها نموذجاً قريباً جغرافياً وزمنياً، خضع لظروف تفكك الدولة بعد عام 2003. فقد اعتمد العراق دستورياً، نموذجاً اتحادياً (فدرالياً) يقرّ بوجود كيان مستقل مثل إقليم كردستان، ويمنح صلاحيات واسعة للمحافظات في إدارة شؤونها الاقتصادية والإدارية.

لكن التجربة العراقية أثبتت أن الانتقال إلى اللامركزية في بيئة ما بعد الصراع لا يُنتج بالضرورة إدارة أكثر عدالة أو فعالية، إذا لم يكن مشروطاً بوجود مؤسسات رقابية قوية، وعدالة في توزيع الموارد، ورؤية وطنية تتجاوز الهويات المذهبية والإثنية. فبدلاً من أن تكون اللامركزية رافعة للتنمية، أصبحت في بعض المحافظات أداة لإعادة إنتاج الفساد المحلي، وتعميق الانقسامات الإدارية.
وفي هذا السياق، تظهر إحدى المعضلات المفاهيمية لما بعد النزاع، وهي ما يُعرف بـ”الدولة الشبح”، أي تلك الكيانات التي تمتلك ملامح سلطوية محلية، من دون أن تحوز على الشرعية أو القدرة على تنظيم الاقتصاد على مستوى وطني. في الحالة العراقية، مثلاً، أدى تراجع المركز وغياب رقابة حقيقية إلى نشوء سلطات محلية أشبه بدول مصغّرة، تُدير شؤونها بمعزل عن رؤية اقتصادية شاملة، ما أدى إلى تفكك السوق الداخلية، وضعف الإنتاجية، وتنافس على العوائد النفطية من دون قاعدة تنموية.

عدالة التوزيع.. بين الحق الدستوري ومخاطر الهيمنة

يشير الباحث ديفيد روميو في تحليله لنموذج الحوكمة العراقية إلى أن اللامركزية في مجتمعات خارجة من النزاع تحتاج إلى توازن دقيق بين الاعتراف بالخصوصيات الجغرافية، والحرص على عدم ترسيخها كدويلات قائمة بحكم الأمر الواقع. وهو ما يتقاطع مع المخاوف المطروحة في الحالة السورية، خصوصاً مع غياب توافق على تعريف “المصلحة الاقتصادية الوطنية”.

بالتالي، تطرح التجربة العراقية تحذيراً وليس وصفة؛ بأنه لا يمكن هندسة لامركزية فعّالة من دون عقد اجتماعي–اقتصادي جديد، يضمن تكامل السلطات، وليس توازن الخوف بينها.
في حين تشير تجربة البوسنة والهرسك بعد اتفاق “دايتون” إلى الوجه المظلم للامركزية إذا ما طُبقت في سياق هش وممزّق. إذ أُعيد تنظيم البلاد إلى كيانات إدارية وعرقية شبه مستقلة، خضعت كل منها لسلطة محلية ذات طابع قومي، من دون أن تُبنى مؤسسات جامعة قادرة على توحيد القرار الاقتصادي. وقد أدّى ذلك إلى تشظي السوق الوطني، وغياب تنسيق فعلي في السياسات العامة، وإلى تباطؤ النمو الاقتصادي لعقود.

فبدلاً من أن تُستخدم اللامركزية كجسر لبناء الثقة، أصبحت إطاراً لتكريس الانقسام و”التجميد المؤسسي”، حيث عجزت مؤسسات الدولة عن ممارسة دورها خارج كياناتها الإدارية. هذه التجربة تطرح تحذيراً قوياً لسوريا؛ فالتحوّل الاقتصادي مهما كان مبرراً، يجب أن يُصاغ ضمن رؤية وطنية فوق–محلية، تحصّن البلاد من الاستقطاب والتنازع الجغرافي.
كما يُحذّر الباحث النمساوي جيرالد كناوس، مؤسّس “مبادرة الاستقرار الأوروبي”، من خطورة تشكيل كيانات اقتصادية–إدارية متمركزة عِرقياً تحت غطاء اللامركزية، كما حدث في بعض جمهوريات البلقان بعد التسعينيات. ففي تحليله لاتفاقات ما بعد النزاع في البوسنة وكوسوفو، يربط كناوس بين غياب الرؤية الوطنية الجامعة وبين ظهور ما يسميه “تجزئة الفساد”، أي إعادة إنتاج شبكات مصالح محلية تحكمها المحسوبيات والمصالح الإثنية، مما يؤدي إلى شلل حكومي طويل الأمد، وعجز عن صياغة سياسات اقتصادية موحّدة.

هذا ويشكّل سؤال العدالة في توزيع الموارد إحدى أعقد تحديات أي مقاربة لامركزية في الاقتصاد، لا سيّما في بلد مثل سوريا يعاني من تفاوتات صارخة في البنى التحتية، والموارد الطبيعية، وتوزع السكان. فمع تآكل الدولة المركزية بعد الحرب، لم تعد المسألة تتعلق بمجرد إعادة رسم علاقات السلطة الاقتصادية، بقدر ما يلزم بصياغة مبدأ وطني جديد للتكافؤ التنموي.

في هذا السياق، لا بد من التفكير في آليات تضمن التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، من دون أن يُساء تأويلها كخطوة نحو تفتيت البلاد. فالهدف ليس تشجيع النزعات المحلية، وإنما تمكين الوحدات الجغرافية من الاستجابة لحاجاتها الاقتصادية ضمن إطار وطني موحّد، يحتكم لمبدأ “الحق في التنمية” بوصفه حقاً دستورياً.

وبدل استيراد نماذج جاهزة، يمكن لسوريا ما بعد النزاع أن تطوّر أدواتها الخاصة، مثل هيئة وطنية مستقلة لإدارة وتوزيع العائدات العامة، ترتكز على الشفافية ومشاركة المجتمع المحلي، والرقابة المؤسسية. فالمسألة لا تتعلق بكيفية توزيع المال، وإنما بكيفية إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وبين المركز والأطراف.
رغم ما قد تحمله اللامركزية من وعود بالتمكين المحلي وتحفيز النمو، إلا أنها تنطوي على مخاطر اقتصادية جوهرية، خصوصاً في البيئات غير المتكافئة مثل سوريا. فحين تُفكك سلطة المركز من دون ضمان شبكات دعم متوازنة، تُترك المحافظات الضعيفة؛ التي تفتقر إلى موارد طبيعية أو بنى تحتية أو كوادر إدارية، عرضة للتهميش البنيوي. في المقابل، قد تستفيد المحافظات ذات القدرات الاقتصادية والبشرية الأعلى من صلاحياتها الموسعة لتكرّس تفوقها، مما يؤدي إلى اتساع الفجوة التنموية داخل البلد الواحد.

مثل هذا السيناريو لا يخلق فقط تفاوتات مادية، وإنما يعيد إنتاج دوائر من التبعية، حيث تعتمد بعض المناطق بالكامل على نقل الموارد من المركز أو من الجهات المانحة، مما يعمّق أزمة الثقة ويغذّي الشعور بالتخلي والإقصاء. وفي غياب آليات تضامن مالي وطني، قد تتحوّل اللامركزية إلى آلية لتعميق الفقر بدل معالجته.
في هذا الإطار، يمكن استحضار تجربة جنوب أفريقيا بعد نهاية نظام الفصل العنصري، فقد واجهت البلاد تحدياً مماثلاً في إعادة توزيع الثروات بين المناطق التي طالها التهميش البنيوي لعقود، وخاصة المناطق السوداء التي حُرمت من التنمية المتوازنة. وقد تبنّت الدولة حينها ما سُمّي بـ”سياسات الإنصاف التنموي”، والتي لم تقتصر على ضخ الأموال، فقد شملت أيضاً بناء آليات لامركزية خاضعة للرقابة المركزية، عبر إنشاء مجالس تنموية محلية ترتبط بمنظومة وطنية موحّدة، تشرف عليها هيئة رقابية مستقلة.

ووفقاً للمفكر الجنوب أفريقي نِڤيل أليكساندر، فإن نجاح التحول لم يكن من خلال قياس بسرعة إعادة التوزيع، وإنما بقدرة الدولة على تأسيس عقد اجتماعي جديد حول معنى الإنصاف، وآليات تحقيقه، من دون إشعال تنافس هوياتي بين المناطق. هذا الطرح يُعيدنا إلى جوهر المسألة في سوريا؛ فالأمر لا يتعلق بكيفية توزع الموارد، وإنما بكيفية إعادة إنتاج المشروعية الاقتصادية للدولة على قاعدة عادلة ومتوازنة، بعد أن اهتزت بفعل عقود من التمركز والتهميش.

الثقة الوطنية.. البعد الرمزي للسياسة الاقتصادية

لا تُختزل اللامركزية الاقتصادية في مجرد نقل صلاحيات إدارية ومالية إلى المحافظات أو البلديات، وإنما تمثّل تحوّلاً في البنية العميقة لعلاقة الدولة بمجتمعاتها المحلية. في السياق السوري الذي لطالما اتّسم بمركزية صارمة ونزعة احتكارية للقرار الاقتصادي، يطرح هذا التحول أسئلة رمزية ومؤسسية في آن؛ فهل يمكن إعادة بناء الدولة من دون إعادة تعريف العلاقة مع الأطراف، وهل تُمثّل اللامركزية خطوة نحو ترميم الثقة، أم مقدّمة لتفكك غير محسوب.
المركزية ليست مجرد نظام إداري، فهي تمثّل أيضاً سردية رمزية للسلطة والانتماء. وفي الحالة السورية لطالما ارتبط المركز بمفهوم الدولة الجامعة، ومع تآكل هذه المركزية خلال الحرب، برز لدى المركز التاريخي شعور مضمَر بالتهديد، ليس فقط من الأطراف، وإنما من فقدان دوره في إنتاج المعنى الوطني ذاته.

وفي المقابل، تشكّل اللامركزية لدى بعض المجتمعات المحلية أفقاً للتحرّر من “عقلية التبعية”، ولكنها قد تستجلب أيضاً شعوراً باللايقين، خصوصاً في حال غياب ضمانات مؤسسية تربط المركز بالأطراف ضمن عقد اجتماعي جديد. هذا البُعد النفس–اقتصادي بالغ الأهمية لفهم السلوك السياسي والاقتصادي في مرحلة ما بعد الصراع، وهو يتطلب حساسية عالية عند تصميم النماذج الاقتصادية الجديدة، حتى لا يتحوّل الانتقال من المركزية إلى تفكك رمزي وأخلاقي.

في هذا الإطار، يرى الاقتصادي الهندي أمارتيا سن أن التنمية الحقيقية لا ترتبط فقط بتحسين المؤشرات المادية، وإنما بتمكين الأفراد من اتخاذ القرار بشأن حياتهم، وهو ما يجعل اللامركزية أداة محتملة لتعزيز التشاركية والثقة. لكن في المقابل، يُحذر باحثون مثل جويل ميغدال من أن اللامركزية، إذا لم تُؤطر ضمن مؤسسات وطنية ضابطة، قد تُفضي إلى ولادة “مزارع سلطوية” أو سلطات محلية غير خاضعة للمساءلة، بما يهدد وحدة الدولة ويُكرّس الفوارق.

بهذا المعنى، لا ينبغي التعامل مع اللامركزية كحل جاهز، بل كاحتمال قابل للتفاوض، يتطلب حوكمة وطنية ناضجة توازن بين حاجات التنمية المحلية ومتطلبات وحدة السياسات والسيادة، بعيداً عن الاستنساخ الأعمى لنماذج خارجية، أو الانجرار نحو تفكيك غير محسوب للمركز.
لا يبدو الخيار بين المركزية واللامركزية الاقتصادية في الحالة السورية قضية حسمٍ أيديولوجي، بل هو نقاشٌ براغماتي حول أنجع السبل للخروج من مأزق الانهيار الشامل وإعادة تأسيس الدولة على أسس أكثر مرونة. فكما يُشير عالم الاجتماع السياسي مايكل مان في نظريته حول “قوة البنى التحتية للدولة”، فإنّ جوهر الدولة لا يكمن في سيطرتها الفوقية، وإنما في قدرتها على النفاذ الأفقي والعميق إلى المجتمع، عبر مؤسسات فعّالة قادرة على التأثير وليس على الإخضاع.

انطلاقاً من هذا التصور، قد يكون الأنسب التفكير في نموذج هجين يُبقي على مركزية السياسات العامة الكبرى كالنقد، والمالية، والعلاقات الخارجية؛ مع منح السلطات المحلية صلاحيات تنفيذية واسعة ضمن إطار قانوني وطني موحّد. وقد نجحت نماذج كهذه في تحقيق التوازن بين التماسك المركزي والاستجابة المحلية، كما في ألمانيا الاتحادية، وبعض الدول الآسيوية كالهند وإندونيسيا.

أما عربياً، فقد خاضت تونس بعد الثورة تجربة لافتة في مجال اللامركزية الإدارية والتنموية، عبر إصدار “مجلة الجماعات المحلية” عام 2018، والتي أعادت تعريف العلاقة بين البلديات والدولة المركزية. وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والسياسية التي واجهت تونس، فقد مثّلت التجربة محاولة جدية لإرساء مقومات حكم محلي فعّال يُعيد للمواطن ثقته بالمؤسسات، ويفتح المجال أمام مشاركة أوسع في رسم السياسات التنموية.

لكنّ نقل هذه النماذج إلى سوريا لا يمكن أن يتم كاستنساخ تقني أو إداري، وإنما يتطلب هندسة دقيقة تأخذ في الاعتبار هشاشة الجهاز البيروقراطي، وتعدد مرجعيات السيطرة، وانقسام النسيج الجغرافي–السياسي، بما يضمن بناء الثقة من جديد، كشراكة مؤسّسة على التوازن، والمساءلة، والاعتراف المتبادل بين الدولة ومجتمعاتها المحلية.

لا تُطرح مسألة المركزية واللامركزية في هذا السياق بوصفها ثنائية معيارية أو خياراً أحادياً، بل تُقارب كإشكالية بنيوية تتقاطع فيها الاعتبارات الاقتصادية مع المعطيات السياسية والاجتماعية. ويتطلب تحليلها استحضار النماذج المختلفة وتفكيك آليات نجاحها أو إخفاقها ضمن سياقاتها الخاصة، بما يسمح بفهم إمكانات التكيّف المحلي، من دون الوقوع في فخ الاستنساخ أو التوصيات المسبقة.

يبقى الحسم في هذا المسار رهن التوافق السياسي والاجتماعي على شكل الدولة السورية القادمة. إذ لا يمكن فرض نمط اقتصادي في ظل غياب مشروع وطني متماسك، ولا يمكن الحديث عن لامركزية ناجحة من دون إطار قانوني واضح، وآليات مراقبة ومساءلة، وقدرة محلية حقيقية على الإدارة.

السؤال المطروح اليوم لا يقتصر على كيف نُعيد تدوير الاقتصاد السوري، وإنما كيف نُعيد إليه معناه السياسي والأخلاقي في بلد يفتّش عن توازن دقيق بين الوحدة والتعدد، وبين الحاجة إلى إعادة الإعمار وضرورات إعادة الاعتبار للكرامة المحلية.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى