
تسارعت التحولات العسكرية والسياسية في المشهد السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد، مما أفسح المجال أمام قوى إقليمية لإعادة تشكيل نفوذها داخل البلاد. في هذا السياق، برزت تركيا كفاعل رئيسي، من خلال سعيها لتوسيع نفوذها السياسي والعسكري، مستغلة وجودها في الشمال السوري منذ سنوات من جهة، وقربها من فصائل المعارضة السورية المسلحة التي أسقطت النظام من جهة ثانية.
هذا التمدد التركي أثار قلق إسرائيل، التي تراقب بحذر التحركات التركية على الساحة السورية، وتعتبرها تهديداً محتملاً لتوازن القوى في المنطقة، إذ تخشى إسرائيل، بحسب تصريحات لمسؤولين عسكريين، من تغير المعادلات الأمنية على حدودها الشمالية بعد سقوط نظام بشار الأسد. وقد عبّر وزير الخارجية عن مخاوف إسرائيل من وصول “جماعات إسلامية” إلى تلك المناطق، مؤكداً أن وجود هذه الجماعات على الحدود سيكون أمراً بالغ الخطورة على إسرائيل.
فيا ترى، ما الذي تخشاه إسرائيل من تمدد النفوذ التركي في سوريا؟ وهل أصبح هذا النفوذ عاملاً مقلقاً أكثر من النفوذ الإيراني بالنسبة لصناع القرار في تل أبيب؟
إسرائيل قلقة
لم تُخفِ إسرائيل قلقها من الوجود التركي في سوريا بعد سقوط النظام، وهذا ما عبّر عنه عدد من القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، إلى جانب عشرات التقارير الصحفية التي حذرت من توسع هذا النفوذ وتأثيره على المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية في سوريا والمنطقة عموماً.
تعليقاً على اعتداءات الاحتلال.. ألمانيا تطالب بانسحاب القوات الأجنبية من سوريا
في هذا السياق، قالت صحيفة “معاريف” إن سقوط نظام بشار الأسد في سوريا سيغير خريطة علاقات القوة في الشرق الأوسط، مع عودة تركيا كقوة إقليمية قد تدخل في صراع مباشر مع إسرائيل.
وفي بداية كانون الثاني، ذكر تقرير لصحيفة “إسرائيل هيوم” أن القيادة السياسية في إسرائيل تعرب عن قلقها من محاولات تركيا تحويل سوريا إلى دولة تابعة لها، معتبرة ذلك تهديداً للتوازن الإقليمي ولمصالح إسرائيل الاستراتيجية، مما دفع إسرائيل إلى مراقبة التحركات التركية عن كثب.
وقد دفعت هذه المخاوف الإسرائيلية من النفوذ التركي المتنامي في سوريا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الدعوة لعقد مشاورات أمنية رفيعة المستوى في 25 آذار/مارس، لمناقشة المخاطر المترتبة على التوسع العسكري التركي في سوريا.
ذكرت القناة 12 الإسرائيلية من جانبها أن نتنياهو “يتابع بقلق التقارب بين الإدارة الجديدة في سوريا وتركيا”، مضيفة أن المناقشات الأمنية التي عقدها نتنياهو يوم 25 آذار حول سوريا ناقشت “الهيمنة التركية المتزايدة” بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول الماضي.
وتعليقاً على هذه المخاوف، يشير د. أحمد أويصال، مدير مركز أورسام للدراسات، إلى أنه من الطبيعي ألا تكون إسرائيل راضية عن الوجود التركي في سوريا؛ لأنها لا ترتاح لوجود أي قوة إقليمية يمكن أن تشكل لها تهديداً مستقبلياً في المنطقة، وليست تركيا وحدها.
ويضيف أويصال، في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أن إسرائيل تشعر بالتهديد من خلال ظهور أي قوة في المنطقة، سواء أكانت عربية أو إقليمية، لذا تعمل جاهدة على إضعاف الدول العربية المحيطة بها، والعمل على تقسيمها، كما هو الحال في سوريا.
تركيا تتوسع عسكرياً في سوريا
على الرغم من نفي مصدر مسؤول في وزارة الدفاع التركية ما أوردته وكالة رويترز قبيل زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى أنقرة في شباط/فبراير، من أن الجانبين سيناقشان تشكيل تحالف عسكري يشمل إنشاء قواعد جوية تركية وسط سوريا وتدريب الجيش السوري، فإن الكثير من المصادر ما زالت تؤكد أن أنقرة ماضية في هذا السياق، لاعتبارات جيوسياسية تتعلق بأمن تركيا ومصالحها الاستراتيجية.
وبعد سلسلة من التصريحات والزيارات التركية إلى دمشق، والتي كان آخرها زيارة وفد يضم وزراء (الخارجية والدفاع والاستخبارات)، بدأ المسار العسكري الجديد الرابط بين تركيا وسوريا يتضح شيئاً فشيئاً، ليصل إلى مرحلة تعيين وزارة الدفاع التركية ملحقاً عسكرياً لها في دمشق، والحديث عن نيتها تعيين ضباط أتراك لتقديم الاستشارات العسكرية، وفق وسائل إعلام تركية. صحيفة “حرييت” المقربة من الحكومة ذكرت قبل أيام أن أنقرة بصدد “تدريب الجيش السوري الجديد”، وأنها مستعدة لإعادة هيكلته، بناء على الواقع الجديد الذي باتت عليه البلاد. وتأتي هذه الخطوة متناسقة مع ما أعلنه وزير الدفاع التركي يشار غولر في 15 ديسمبر الماضي بأن بلاده مستعدة لتوفير التدريب العسكري إذا طلبت الإدارة السورية الجديدة ذلك.
من جانبه، زعم موقع (واللا) الإسرائيلي، نقلاً عن مصادر أمنية، أن اتصالات سورية تركية تجري بشأن تسليم مناطق قرب تدمر للجيش التركي، مقابل دعم اقتصادي وعسكري لدمشق.
وتشير التقديرات إلى أن تركيا ما زالت تنشر آلاف الجنود في بلدات سورية، منها عفرين واعزاز وجرابلس في شمال غربي سوريا، ورأس العين وتل أبيض في الشمال الشرقي، إثر العمليات العسكرية المشتركة التي شنتها تركيا بالتعاون مع قوات المعارضة السورية ضد تنظيمي “داعش” ووحدات حماية الشعب الكردية التابعة لـ”قسد”.
تركيا تملأ الفراغ في سوريا
استغلت أنقرة الفراغ الاستراتيجي الناتج عن انحسار القوى التقليدية الداعمة لنظام بشار الأسد (روسيا وإيران)، لتعزيز حضورها على الساحة السورية، مستندة إلى كونها اللاعب الوحيد الذي استمر في دعم قوى المعارضة منذ بداية الأزمة السورية. وهذا ما أشار إليه عدد من الخبراء العسكريين الغربيين، إضافة إلى وجود عشرات القواعد العسكرية التركية في شمالي سوريا.
قال الخبير العسكري في المجلس الأطلسي، ريتش أوتزن، في مساهمة على موقع المجلس: “تركيا هي الدولة الوحيدة التي يبدو أن لديها استراتيجية رابحة لسوريا: معارضة الأسد في أثناء التفاوض مع داعميه، واستضافة اللاجئين، ودعم المعارضة سياسياً وعسكرياً، ومحاربة وحدات حماية الشعب – وهي فرع من جماعة حزب العمال الكردستاني المناهضة لتركيا – في شمالي سوريا”.
وفي هذا السياق، أفادت صحيفة “جيروزاليم بوست” بأن لجنة “فحص ميزانية الأمن وبناء القوة”، المعروفة بـ “لجنة ناغل”، نبهت في تقريرها لنتنياهو في يناير الماضي إلى خطر التحالف السوري – التركي، الذي ربما يخلق تهديداً جديداً كبيراً لأمن إسرائيل، وقد يتطور إلى شيء أكثر خطورة من التهديد الإيراني.
وعن طبيعة هذا الدور في سوريا، يقول د. أويصال إن الوجود التركي في سوريا لن يشكل تهديداً لإسرائيل أو لأي دولة في المنطقة، لأن أنقرة تريد أن ترى سوريا قوية موحدة، وألا تكون مصدر قلق لجيرانها، من خلال مشاكل اللاجئين وتصدير الإرهاب والمخدرات. وهذا الدور يختلف بطبيعة الحال عن الدور الإيراني في سوريا.
من جانبها، سعت إسرائيل لمواجهة هذا النفوذ التركي في سوريا من خلال الضغط على واشنطن لإبقاء القواعد الروسية في سوريا، وذلك بحسب تقرير لوكالة رويترز. وأضافت الوكالة، نقلاً عن مصادر مطلعة على المحادثات، أن إسرائيل أبلغت واشنطن بتفضيلها الاستراتيجي للسماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية في سوريا لمواجهة النفوذ التركي المتزايد.
إلا أن الوجود الروسي قد يكون مرحباً به من قبل كل من إسرائيل وتركيا، إذ يمكن أن تكون روسيا وسيطاً بين الطرفين لمنع تصادمهما في سوريا، بسبب ارتباط موسكو بعلاقات دبلوماسية قوية مع كلا البلدين. بمعنى أن إسرائيل لن تستطيع أن تُحدث شرخاً بين تركيا وروسيا، وذلك بحسب الباحث أويصال.
ما الذي تخشاه تل أبيب؟
يبدو واضحاً من خلال قراءة ردود الفعل الإسرائيلية على محاولات تركيا توسيع نفوذها العسكري في سوريا، أن أكثر ما يثير القلق لدى “إسرائيل” في المرحلة الحالية، هو أن يؤدي تعاظم الدور التركي في سوريا إلى تقييد حرية العمليات الإسرائيلية، التي استندت في السنوات الأخيرة إلى تفاهمات مع روسيا بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015.
وفي هذا السياق، يوضح الباحث السياسي نادر الخليل أن “إسرائيل” تخشى أن يفرض التنسيق بين دمشق وأنقرة خطوطاً حمراء جديدة أمام عملياتها الجوية، فبينما كان هناك تفاهم غير معلن بين روسيا وإسرائيل يتيح للأخيرة هامشاً واسعاً للتحرك ضد الأهداف الإيرانية، فإن تركيا قد لا تمنح إسرائيل هذه المساحة.
ويرى الخليل، في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أن إنشاء قاعدة بحرية تركية في طرطوس وقاعدة عسكرية في تدمر، إذا ما تحقق، سيكون تحولاً استراتيجياً قد يحد من الهيمنة الروسية على الساحل السوري، ويجعل تركيا طرفاً أساسياً في تحديد مستقبل المعادلات الأمنية في سوريا. وهذا الأمر قد يدفع إسرائيل إلى إعادة تقييم خياراتها وعملياتها العسكرية في سوريا، التي قد تصل إلى الحد منها كثيراً، وربما إيقافها.
من جانبه، يرى الخبير العسكري والاستراتيجي أحمد حمادة أن ما تخشاه إسرائيل هو أن تكون هناك دولة سورية قوية موحدة، مدعومة من دول صديقة كبرى كتركيا، وهذا الأمر يغيض إسرائيل، التي تعمل على تدمير ما تبقى من الجيش السوري من جهة، وتعمل جاهدة على تقسيم سوريا إلى كانتونات طائفية من جهة أخرى.
ويرجح حمادة، في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، أن تكون تركيا هي البديل لتقديم السلاح والتدريب العسكري، وحماية الحدود من خلال التعاون العسكري أو إقامة قواعد عسكرية تركية في سوريا، وذلك في ظل استمرار العوائق والعقوبات الغربية والأميركية التي تحول دون تقديم أسلحة للجيش السوري.
وكان الرئيس أردوغان قد حذر في أكثر من مناسبة إسرائيل من “عواقب غير مواتية” إذا لم تنسحب من سوريا، حيث أكد في كلمته أمام البرلمان التركي في 15 كانون الثاني الماضي أنه “يجب على إسرائيل أن توقف فوراً الأعمال العدائية على الأراضي السورية؛ وإلا فإن النتائج سيكون لها تأثير سلبي على الجميع”.
وشدد أردوغان في كلمته على أنه “يجب على الجميع أن يرفعوا أيديهم عن المنطقة، ونحن قادرون مع إخواننا السوريين على سحق تنظيم (داعش) و(الوحدات الكردية)، وجميع التنظيمات الإرهابية في وقت قصير”.
المصدر: تلفزيون سوريا