بحث في سورية عن الشرعية

رانيا مصطفى

في ظلّ سياسة الغرب في التعاطي الحذر مع الحكم في دمشق، يُشكّل حضور وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، مؤتمر بروكسل للمانحين لدعم سورية قبل أيام، موافقةً مبدئيةً على تلك الفئة الحاكمة، وأن من الأجدى إعطاءها فرصاً جديدة، مع مراقبتها، ومساعدتها في تحقيق الاستقرار اللازم لإعادة جزءٍ من اللاجئين السوريين في دول الاتحاد الأوروبي، أو في دول الجوار السوري. أجّلت تلك الدول النقاش في رفع العقوبات الأوروبية المفروضة على سورية، ولن تعطى المساعدات المقرّرة عبر الحكومة السورية، وفي غالبيتها مساعدات عينية، ونصفها مخصّص لدول الجوار التي تستضيف اللاجئين السوريين، هذا فضلاً عن انسحاب الولايات المتحدة من مجموعة المانحين، رغم حضور ممثّليها المؤتمر.
هناك إدانة غربية للمجازر الطائفية بحقّ المدنيين العلويين في الساحل السوري، الذين قتلوا بيد قوات تابعة للحكومة السورية، منها فصائل شاركت في مؤتمر النصر، الذي عيّن أحمد الشرع رئيساً، ومنها عناصر جهادية (سورية وغير سورية) تنتمي إلى هيئة تحرير الشام، إضافة إلى مدنيين لبّوا نداءات “الفزعة” التي أطلقها مؤثِّرون مقرَّبون من الحكومة في وسائل التواصل الاجتماعي، بعد عملية التمرّد التي نفّذها عناصرُ من فلول النظام البائد في الساحل، والتي كانت، رغم أنّها بدت منظّمةً ومدعومةً بأيادٍ خارجية، جبانةً وضعيفةً، ولا ترقى إلى درجة وصفها بالانقلاب العسكري، كما أشيع. وللخروج من الورطة، شكّل الشرع لجنتَي تقصّي الحقائق والسلم الأهلي، كذلك وقّع في هذا التوقيت اتفاقاً مع قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، تفاصيله مؤجّلة، للتغطية على أصداء تلك المجزرة.

 يُصرّ أحمد الشرع على عدم إشراك أيّ أطرافٍ معه في الحكم، وهذا ما بدا جليّاً في الإعلان الدستوري الذي أصدره أخيراً

يقود تصريح الشرع السابق “اذهبوا فأنتم الطلقاء” إلى تشكيك في نيّته محاسبة مرتكبي الجرائم بحقّ الشعب السوري، خصوصاً أن فتح ملفّ العدالة الانتقالية يعني أن قادةً في هيئة تحرير الشام، وغيرها من الفصائل، قد يتعرّضون للمساءلة في انتهاكاتٍ بحقّ المدنيين في مناطق سيطرتهم سابقاً. يعزّز تلك المخاوف ما ورد على لسان الوزير الشيباني في بروكسل، أنّ “حكم الأقلّية” 54 عاماً أدّى إلى “مقتل مليون سوري وتهجير 15 مليوناً آخرين، وإلى قمع الأغلبية والأقلّيات الأخرى على السواء”، في إشارة إلى تحميل الطائفة العلوية وزر جرائم نظام الأسد، وبالتالي عدم محاسبة المجرمين الحقيقيين، علويين كانوا أو سُنّة أو غيرهم، واعتدنا تعامل الحكومة مع شخصيات كبيرة كانت في صلب داعمي نظام الأسد.
يضاف إلى ما سبق تجييشٌ طائفيٌّ شعبيٌّ ضدّ الدروز، يروّجه مؤثّرون ووسائل إعلام مؤيّدة للحكومة، وتُنقل أخبار غير صحيحة عن استقواء السويداء بإسرائيل، وتضخّم دور “مجلس عسكري” يتبنّى طروحاتٍ فيدرالية بدا مقرّباً من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، بل ونُشر أن شيخ العقل، حكمت الهجري، يتبنّى تلك الطروحات، رغم أن المجلس بطروحاته ظلّ معزولاً من مشايخ العقل والفصائل والناشطين المدنيين. وكذلك يستمرّ تجييش ضدّ الأكراد شرق الفرات، ودعوات إلى محاربة “قسد”. هذا التجييش ضدّ الأقلّيات عموماً، الذي اتّخذ شكلاً طائفياً، باتجاه استماتة السُّنة في سورية للدفاع عن المكسب الذي حقَّقوه، وأنّ هذا المكسب الوطني يتعرّض لخطرٍ آتٍ من الأقلّيات خصوصاً، مدعومين بتدخّلاتٍ خارجية، يضاف إليه قصفٌ ناري باتجاه الأراضي اللبنانية ردّاً على مقتل ثلاثة من عناصر الأمن العام بيد أشخاص قيل إنهم من حزب الله، ما استدعى ردّاً مضادّاً من الجيش اللبناني، من دون معرفة التفاصيل، في ظلّ تضارب التصريحات وغياب وسائل الإعلام المحايدة. لربَّما اعتقدت السلطة الحاكمة في دمشق أن حالة التجييش الطائفي، وتضخيم الأخطار، يمكن استغلالها لتثبيت السلطة حكومةَ أمر واقع.
كشفت أحداث الساحل أن حلّ الفصائل ودمجها في الجيش كانا غير صحيحين، إذ لا سيطرة لوزارة الدفاع على عديد منها. زاد هذا من تمسّك فصائل الجنوب في درعا والسويداء بسلاحها، وصعّب شروط الدمج مستقبلاً مع “قسد”. والشرع ليس في وارد فتح جبهات قتالٍ مع أيّ طرف، وتتجنّب بالمثل باقي الأطراف المسلّحة فتنة الاقتتال. ولا يسيطر فعلياً حتى على مناطق وجود قوّاته، هناك معارضون لسياساته في إدلب، منهم جهاديون سابقون، وهو لا يثق بكثيرين ممّن حوله. لكنّه في ظلّ هذه التعقيدات كلّها يُصرّ على عدم إشراك أيّ أطرافٍ معه في الحكم، وهذا ما بدا جليّاً في الإعلان الدستوري الذي أصدره أخيراً، فقد جاءت صيغته أشبه بدستورٍ مُصغّرٍ صالحٍ لخمس سنوات، كما ورد في نصّه، ورغم ما ضمّ من مقولاتٍ جيّدة عن وحدة سورية، وحقوق الإنسان والمرأة والطفل، والحرّيات الخاصّة والعامّة، وفصل السلطات، إلا أنه ينسفها برمّتها بحصر السلطات كلّها بيد الرئيس، فيعيّنها كلّها، بما فيها مجلس الشعب، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ومن دون ورود إمكانية لمحاسبته، وحتى ملفّ العدالة الانتقالية سيتمّ عبر الجهاز القضائي، الذي يسيطر عليه هو وشرعيّوه، بعد أن تضمّن مادّةً تحظر إنشاء المحاكم الاستثنائية.

كشفت أحداث الساحل السوري أن حلّ الفصائل ودمجها في الجيش كانا غير صحيحين، إذ لا سيطرة للشرع على عديد منها

وفي نهاية مدّة صلاحيته، لا ينتقل الإعلان بالسلطة، إذ يكتفي بذكر أنه سيكون هناك دستور دائم وانتخابات. وهذا يعني أنّها قد تكون فترةً انتقاليةً لتمكين حكم الشرع، بالنظر إلى ما قامت به حكومة الإنقاذ من السيطرة على مؤسّسات الدولة كلّها، وإقصاء الخبرات السورية، وكذلك طريقة اختيار مسؤوليه الأمنيين في المحافظات للشخصيات التي حضرت “مسرحية” مؤتمر الحوار الوطني، وسيتّضح التوجّه بعد تشكيل الحكومة المؤقّتة، التي سيرأسها الشرع بنفسه، حسب الإعلان الدستوري، أي هل ستكون شاملة، تشرك كفاءات سورية بالفعل، أم لا؟
رفضت “قسد” وأحزاب المجلس الوطني الكردي، الإعلان الدستوري الإقصائي، وكذلك جاء بيانٌ رافضٌ له من الشيخ حكمت الهجري بعد توحيد الرأي في السويداء. وتستشعر باقي الأقلّيات الدينية خطر أسلمة الدولة، ونخبٌ سياسية سورية ترى أنه يؤسّس ديكتاتوريةً جديدةً. وتشعر درعا، بأهلها وفصائلها وناشطيها، بإقصائها من المشهدين السياسي والعسكري. هذا يقود إلى أن الشرع عقّد مهمّة البحث عن تشريع سلطته. سيكون واهماً إذا اعتقد بإمكانية التعويل على الخيار الطائفي، أي استمرار تجييش الأغلبية الدينية؛ لأن شكل السلطة، التي يبدو أنه ماضٍ في تشكيلها، لا تمثّل مصالح تلك الأغلبية، والإعلان الدستوري لا يلحظ كيف سينهض بالوضع الاقتصادي للسوريين، وعودة المهجّرين، وحقّ توفير فرص العمل للجميع. ورهاناته الاقتصادية كلّها على المساعدات ورفع العقوبات وتدفّق أموال إعادة الإعمار.
لا يريد الغرب ديمقراطيةً في العالم العربي، أبقى على الأسد حتى نهايته، وقَبِل بمجيء هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها إلى دمشق، ليعقّد المشهد، ولن يعطي هؤلاء شرعيةً دوليةً إلا إذا نجحوا في السيطرة على الحكم من دون إقصاء، وضمان ألّا تشكّل سورية تهديدات لدول الجوار. وهذا مرهون بإرادة الشرع وقدرته على إقناع جماعته بضرورة تقديم التنازلات الأيديولوجية، وإنشاء تحالفاتٍ مع القوى السياسية والعسكرية كلها، العاملة في الأرض.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى