
خرجت في سانتياغو عاصمة تشيلي مظاهرة ضخمة تضامناً مع غزّة، واختار المنظّمون التجمّعَ أمام السفارة الأميركية، وحمل المتظاهرون لافتة كبيرة كُتِب عليها “يا حكومة الولايات المتحدة، لطالما كنتِ كابوسَ العالم”، في إشارة إلى ما قامت به أميركا من تدخل في شؤون تشيلي ومعظم دول أميركا اللاتينية، وفي دول كثيرة. تكفي الإحالة على مثال فيديل كاسترو الذي تعرّض لأكثر من 600 محاولة اغتيال، وهو عددٌ يكاد لا يصدّق، لكنه الإصرار على تصفية الخصوم، فالشعار لم يُدرج بعفوية أو عشوائية؛ لأن الحقبة الأميركية التي لا يزال يمر بها العالم عاشت ولا تزال كوابيس أميركية متلاحقة، جديدها أخيراً ما تعيشه غزّة والضفة الغربية مباشرةً في الشهر الكريم.
لم يكتفِ الإسرائيليون بقتل النساء والأطفال، وحتى الأجنة في الأنابيب، بل تعمّدوا القضاء على القدرات الإنجابية لعدد واسع من النساء، حسب ما أكدت مصادر الأمم المتحدة التي مقرّها المركزي في نيويورك، ولا نعتقد أن الرئيس ترامب غافلٌ عن ذلك، إذ يعلم الصغيرة والكبيرة في بلاده وفي العالم، لكنه مع ذلك يبتسم، ويعلن بكل تحدٍّ أنه سيقضي على المقاومة من خلال دعم حكومة فاشية تحكم الكيان الصهيوني بالسلاح المدمّر، وسيأخذ غزّة غصباً عن سكّانها ويحولها إلى مشروع عقاري، وأخيراً أفصح عن نيته في القضاء نهائياً على الحوثيين في اليمن، هكذا يعتقد ساكن البيت الأبيض ويحلم.
أوروبا التي تضاءل وزنها كثيراً بإرادة أميركية لم تجد سوى الاستنكار اللفظي والمطالبة بوقف إطلاق النار، وهو ما دفع بعض دولها إلى تصعيد مواقفها، مثل إسبانيا وإيرلندا التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب. لكن ماذا يريد ترامب من الفلسطينيين وهو يتابع السلوك الهمجي لحليفه نتنياهو، ويقارنه بسلوك المقاومة؟.
مارست “حماس” وحليفاتها سياسة ضبط النفس فترة تجاوزت خمسين ساعة من استئناف العدوان مجدّداً على غزّة، ألا يدلّ ذلك على صبرها وحكمة قيادتها رغم سقوط ما لا يقل عن ألف شهيد وشهيدة؟ والعالم يقرّ بأن الذي انقلب على الاتفاق هو رئيس حكومة الكيان، وليست “حماس” التي لا تزال متمسّكة به وتطالب باحترامه، خاصة أن الاتفاق انعقد بمشاركة أميركا التي تعتبر من أهم الوسطاء في هذه الأزمة. وعندما اعترضت الحركة على الاقتراح الذي تقدم به ترامب كان اعتراضها وجيهاً؛ لأن المنطق يفرض على المفاوض الفلسطيني أن يحسّن استعمال الأوراق التي في يديه، ويوازن بين الربح والخسارة مهما اختلت موازين القوى. فهل يعقل أن تُطلق سراح الأسرى الذين في ذمّتها بسهولة وتخضع للابتزاز الإسرائيلي من دون مقابل؟ لو فعلت ذلك لفقدت مصداقيتها، واتهمها الجميع بالغباء والتخلي عن دماء آلاف الشهداء الذين سقطوا منذ 7 أكتوبر(2023).
ما الذي يضمن اليوم، بعد رصد السياسة الحمقاء والإجرامية للحكومة الإسرائيلية، أنه بعد تسليم كل الرهائن، ستتوقف الحرب، ويسود الهدوء، ويُرفع الحصار عن سكان غزّة الذين يعانون الأمرّين من منع الغذاء والأدوية والمعدّات الصحية ومياه الشرب والكهرباء وكل شيء تقريباً؟ إنها حرب إبادة وليست نزاعاً مسلحاً عادياً.
غزّة في هذه المرحلة بالذات ملفٌّ إنساني أكثر من كونها ملفاً سياسياً، ولهذا السبب تحديداً يتعاطف معها الناس في كل مكان، بما في ذلك جزء من المواطنين الأميركيين. وواضح أن الممسكين بالإدارة الأميركية حالياً قد تخلوا بوضوح، أكثر من الإدارة السابقة، عن الدوافع الإنسانية والحقوقية، بعد أن فَصَلوا الأخلاق عن السياسة الخارجية، ولم يعد يهمّهم قتل الأطفال والنساء وهم تحت الخيام وخلال شهر الصيام. هم ضدّ حقوق الإنسان، هم ضدّ السلم والعدالة، هم ضدّ الأمم المتحدة بعد أن أوقفوا تمويل العديد من مؤسّساتها، وضدّ محكمة العدل الدولية، وضدّ القانون الإنساني، وضدّ عالمية حقوق الإنسان، هم ضدّ التعاون الدولي والإنساني في العديد من المجالات الحيوية، هم مع تبرير الانتهاكات بكلّ أصنافها. لهذا السبب بالذات، رفع التشيليون شعار “يا حكومة الولايات المتحدة، لطالما كنتِ كابوسَ العالم”.
المصدر: العربي الجديد