خلال أيام يدخل قانون العقوبات الأميركي “قيصر” حيّز التطبيق، بينما العملة السورية في انخفاض مستمر أمام الدولار الأميركي، حيث وصلت إلى سعر قياسي لم تصله في ذروة الصراع والحرب على ثورة الشعب السوري. وإن جولة بسيطة في أسواق المدن السورية، تكشف حجم المأساة والكارثة التي بدأت تطل برأسها، فيما سقف الأجور للعاملين في القطاع العام لا يتعدى الـ 30 دولاراً ويأتي ذلك في ظرف استثنائي لأحوال العمال السوريين، الذين تأثرت أشغالهم في ظلّ تفشي فيروس كورونا المستجد، مما يهدد المناطق الخاضعة للنظام إلى ما يشبه المجاعة.
قد تكون إحدى مسببات هذه الأزمة الحرب المفتوحة بين رامي مخلوف وآل الأسد، والتي انتقلت إلى وسائل الإعلام، ظاهرها اقتصادي وباطنها سياسي بحت، حيث هناك صراع خفي بين جهات عدة داخل النظام، غايته تحقيق توازنات جديدة في نظام مفلس على الصعد كافة، ويقع عموم السوريين في آخر سلّم اهتماماته.
تدلّ المعطيات المتوافرة على أنّ عائلة مخلوف التي راكمت النفوذ والثروات طوال العقود الماضية مستفيدةً من ارتباطها عائلياً بالنظام وتحولها إلى واجهته الاقتصادية، فضلاً عن أدوارها الأمنية، باتت اليوم على حافة سقوط مدوٍ، بعد خلاف مع عائلة الأسد الحاكمة، ويتصدر رامي مخلوف واجهة الخلاف.
فالنظام الذي يعاني من انهيار اقتصادي بعد أكثر من تسع سنوات من الحرب التي شنها على السوريين، بدأ بمرحلة جديدة عنوانها الأساس إجبار جميع المحسوبين عليه ممن راكموا ثرواتهم من خلال الإمتيازات التي منحهم إياها، على تمويل استحقاقاته المالية الداخلية والخارجية المتراكمة. فمسألة “سيريتل” ليست هي القضية الأساسية التي تدور المعركة حولها، بل هي قمة الجبل من المشكلة الحقيقية، والمتمثلة بمليارات الدولارات المتنازع حولها فالأمبرطورية المالية التي كان يديرها مخلوف تتعدى بلاد الشام، فجزء كبير من أمواله موجود في الخارج، في دبي مثلاً، وبعض الجزر التي جعلت قوانينها جنة ضريبية، ويقول البعض في موسكو أيضاً. الهدف من كل ذلك، التفاوض مع رامي على إرجاع جزء منها، لأن قيمتها تفوق بكثير ما يملكه داخل سورية نفسها، فالتحويلات إلى الخارج من قبل عائلة مخلوف كانت تتم منذ ما قبل اندلاع الثورة السورية.
وإن كان تغوّل عائلة مخلوف أحد الأسباب التي أفضت إلى انطلاق الثورة السورية، بعدما تحولت سورية كلها إلى مجرد مزرعة لعدة عائلات مرتبطة بالنظام، أبرزها عائلة مخلوف التي أصبحت أغنى عائلة في البلاد.
وإن كان بعض الدبلوماسيون العرب والأجانب في سورية يتداولون أن الأسد الأب ترك لخليفته بشار، مبلغ 30 مليار دولار، في الصندوق السري للعائلة وللنظام لكي يتصرف بها في حالات الطوارئ القصوى، وبالتالي، فإن هذا النظام غنيٌ، لا تقل ثرواته الخاصة عن ثروات بقية الأنظمة العربية، عدا الخليجية طبعاً، لكنه لا يزال يرفض أن يصرف من أمواله لتغطية الأكلاف الإقتصادية والإجتماعية للحرب المستمرة منذ تسع سنوات، ويحرص على أن يلقي هذا العبء الضخم على الدولة السورية المفلسة. فالنظام ما زال غنياً، لكن الدولة تزداد فقراً. وهذه إزدواجية ثابتة في مختلف الأنظمة الدكتاتورية، لكنها في الحالة السورية، تضع الدائنين الروس والايرانيين أمام خيارات صعبة جداً.
أي أن الصراع على الثروة المالية وعلى النفوذ السياسي بين فرعي العائلة الواحدة يتداخل مع عوامل أخرى تلعب دوراً في إذكائه، وسط المرحلة الحرجة التي تدخلها سورية هذه الأيام سواء على الصعيد الاقتصادي، أو على صعيد الحلول السياسية، التي تسعى إليها موسكو. وعلى ما يبدو أن إخفاق الروس في مشروع المبادلة أو التسوية على رأس النظام أو على شكل النظام، دفع الكرملين إلى إعادة خلط الأوراق من جديد والاستعداد إلى ما هو أصعب، حيث كان من الصعب الفصل ما بين “الدولة” النظام وأسرة الأسد، وذلك ضمن اعتبارات تاريخية، أرسى دعائمها الأب المؤسس الذي قام مبكراً بإقصاء الوجوه المنافسة ومراكز القوى داخل مؤسسات الدولة وحصر ولاءها في عائلة الأسد، ما أدى إلى نشوء علاقة زبائنية ومصالح مكّنت آل الأسد من وضع اليد على الطائفة والدولة.
وإن كان ماحدث بين آل مخلوف وآل الأسد يعتبر أول تناقض حاد يخرج إلى العلن منذ حوالي الأربعين عاماً داخل العائلة الحاكمة، الأمر الذي قد يمهد مستقبلاً إلى صراع على السلطة والنفوذ خصوصاً المالي والاقتصادي في ظل ظروف صعبة تمر بها دولة النظام، نتيجة تأخر التسوية المرتبطة بإعادة الإعمار، وشح المساعدات الإيرانية والروسية و”العراقية”، وما بينهما جائحة كورنا وعقوبات قيصر.
إلا أنه ماقد يكون مستغرباً هو الدفع الروسي أولاً باتجاه التخلص من ميليشيات الشبيحة وقادتها، بتطويعهم ودمجهم ضمن قوات “نظامية”، ثم الدفع باتجاه عملية مماثلة في عالم المال والاقتصاد. ذلك كله يخدم تفرد آل الأسد، بخلاف الصورة الشائعة عن سعي موسكو إلى إضعافهم أو تقويض سلطتهم. إنه أقرب إلى الدعاية الروسية عن كون التدخل العسكري أتى احتراماً للسيادة وما إلى ذلك من شعارات، إلا إذا كانت موسكو ترى أن خروفاً سميناً واحداً أسهل لها لحظةَ الذبح من قطيع خراف.
مع ذلك فإن الاستياء والاحتقان الشعبي المتصاعد نتيجة تدهور الحالة المعيشية لن يصلا إلى مرحلة حراك ثوري جديد، لأن السوريين باتوا يعرفون جيداً أن النظام مستعد للبطش بهم، كما فعل في كل المناطق التي خرجت ضده. وتمثل الأحياء والمدن المدمرة على كامل مساحة الوطن رسالة واضحة لكل من يفكر بتجسيد استيائه في حراك ثوري. وإن كانت شعبية بشار الأسد باتت بالحضيض، ولم يعد لديه مؤيدون في الشارع السوري، حيث أنه دمر سورية خلال 20 عاماً من حكمه، وشرد أكثر من نصف أهلها، فضلاً عن سقوط مليون شهيد، ومثلهم ما بين معتقل ومغيّب ومعاق، والبلاد باتت مناطق نفوذ دولي وإقليمي، ويمكن إعتبار أن معظم السوريين في الداخل باتوا يبحثون عن حلّ حقيقي لقضيتهم من دون وجود لبشار الأسد وأركان حكمه.
وإن كانت هياكل المعارضة في الخارج تعول على خلاف الأسد – مخلوف، وعلى إستعداد روسيا التخلي عن رئيس النظام، في انعكاس واضح لعدم قدرتها على أي فعل إيجابي أو إمكانية لحشد شعبي في المدى المنظور. وترجع ذلك إلى الخوف الذي لا يزال هو الطاغي على الشارع الشعبي من عصابة إجرامية سقطت أخلاقياً قبل سقوطها السياسي والعسكري، ومحيلة مهمة إنقاذ سورية واستعادتها على عاتق كل السوريين، وليس على عاتق المعارضة فحسب، وتضع اللوم على المجتمع الدولي الذي لم يتدخل بشكل جاد وصارم من أجل إنقاذ السوريين من المآسي التي يعيشونها في الداخل، وعدم تطبيق قرارات الشرعية الدولية، لوضع حدٍّ لما يجري في سورية.
النخب السورية مطلوب منها الآن أكثر من أي وقت مضى أن تلعب دورها الحقيقي بعيداً عن كل الخلافات التي مرت خلال فترة الثورة، ومتجاهلة جميع الهياكل التي أنشأت لمصادرة ثورة الشعب، إذ أن التاريخ قد فرض على سورية التغيير والانتقال إلى نظام سياسي ديمقراطي عصري، ولمواجهة حجم الدمار المادي والمجتمعي، وإزالة آثار المشكلات الكثيرة المتراكمة التي سيكون حلّها صعباً ومعقداً جداً، حتى مع توفّر دعم العالم بكامله، فإنه يتوجب تشكيل جبهة عريضة تجمع كل الوطنيين المخلصين لصياغة تيار وطني يعمل على وضع إستراتيجية عمل لمواجهة ما هو قادم مستجلباً الدعم الدولي اللازم. أما إذا لم يتم رحيل النظام وغاب دعم المجتمع الدولي، وبقي الوضع على ما هو عليه؛ فإن على جميع السوريين -دون استثناء- أن يترحموا على سورية.
المصدر: صحيفة اشراق