التطورات المتسارعة في شمال غرب سوريا، وما يرافقها من مواقف متبدلة بسرعة على ضوء المستجدات المتلاحقة على الأرض، تؤكد وبما لا شك فيه صحة التقديرات التي ذهبت، في وقت مبكر، إلى أن معركة إدلب ستغيِّر مجرى الحرب في سوريا. وانطلقت تلك التقديرات من أن روسيا أرادت من خلال فتح هذه المعركة فرض خارطة عسكرية وسياسية جديدة، عبر تفسير جديد لـ”مسار أستانا” و”اتفاقية سوتشي” في صالح استراتيجيتها الداعمة لنظام بشار الأسد، ليس من موقع اعتباره حلفياً بل تابعاً ينفِّذ الإملاءات التي يفرضها رجل الكرملين القوي.
بالمقابل لم يكن واضحاً خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من المعركة كيف سيتم على أرض الواقع ترجمة سيل التهديدات التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزيرا الدفاع والخارجية والعديد من المسؤولين الأتراك، والتي تمحورت حول استعداد أنقرة للقيام بعمل عسكري في حال عدم قيام موسكو بالضغط على نظام بشار الأسد لسحب قواته إلى خلف حدود “اتفاق سوتشي”، الموقع عليه من قبل الرئيس الروسي بوتين ونظيره التركي أردوغان، 17 أيلول/سبتمبر 2018، والذي قضى بإقامة منطقة منزوعة السلاح في محافظة إدلب والريف الشمالي لمحافظة حماة، داخل منطقة خفض التصعيد، استناداً إلى ترتيبات “عملية أستانا”، على طول خطوط التماس بعمق 15- 20 كيلومتراً.
وعليه بقيت الحسابات والتقديرات متذبذبة، حيث مالت في الأيام الأولى من المعركة لصالح الخطة الروسية، ومع التقدم السريع لقوات النظام والميليشيات الإيرانية المتحالفة معها، في مناطق غرب حلب وريف إدلب الجنوبي وجبل الزاوية، بدعم عسكري روسي مباشر، بدا وكأن تركيا مرتبكة وغير قادرة على حسم خياراتها في مواجهة الحليف الروسي، إلى أن جاءت اللحظة التي قلبت كل الحسابات، بمقتل وجرح العشرات من الجنود الأتراك جراء استهداف طيران النظام لقافلة عسكرية تركية بإدلب، في 27 شباط/فبراير الماضي، وهو ما استلزم رداً عسكرياً قاسيا من أنقرة.
مفاوضات صعبة، على حد وصف الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، سيخوضها بوتين وأردوغان في القمة المزمع عقدها بينهما في موسكو في الخامس أو السادس من شهر آذار/مارس الجاري، والتي يعتبر انعقادها تراجعاً في الموقف الروسي يشير إلى مأزق الكرملين، فقد سبق أن نفى بيسكوف وجود نية لدى بوتين للقاء أردوغان، وتزامن ذلك مع تقدم سريع لقوات النظام والميليشيات الإيرانية المتحالفة معه، قبل أن تبدل موسكو موقفها بعد الضربات المؤلمة التي أوقعها الجيش التركي بجيش النظام والميليشيات الإيرانية.
ولعلَّ الأيام التي تفصلنا عن انعقاد قمة بوتين وأردوغان ستكون اختباراً هو الأصعب للعلاقة بين الجانبين الروسي والتركي، إذ أن التطورات في الميدان هي التي ستحدد نتائج القمة، في سياق سباق محتدم لإعادة رسم الخرائط وإعادة توزيع موازين القوى لمرحلة ما بعد “اتفاقية سوتشي” و”مسار أستانة” الذي لفظ أنفاسه، بعد طول مناورات من قبل موسكو وضعته في غرفة الإنعاش.
النتائج التي حققتها القوات التركية في الأيام الأخيرة، وتقدم الفصائل العسكرية للمعارضة بريف إدلب الجنوبي وجبل الزاوية وريف حماة الشمالي وسهل الغاب فرضت معادلة جديدة، ومن المقدر وفق حسابات أنقرة أن تحقق القوات التركية وفصائل المعارضة المزيد من الانجازات بعد الإعلان عن عملية “درع الربيع”، بيد أن الموقف يعتمد أيضاً على ردود الفعل التي ستتخذها موسكو إزاء التحركات العسكرية التركية، مع التأكيد على أنه دون ذلك حسابات معقدة للطرفين الروسي والتركي، الذين تجمع بينهما العديد من العلاقات الاقتصادية المهمة، وتفرق بينهما التوجهات حيال سوريا.
بانتظار القمة
تراهن الحكومة التركية على دعم عملي من حلف الناتو يحول دونه حتى الآن الموقف الأمريكي الذي يراوح في حدود الدعم الإعلامي، وفي حال حصول أنقرة سريعاً على دعم الناتو سيعزز ذلك من موقفها العسكري، وفي الضفة المقابلة من شأنه أن يكبح احتمال إقدام روسيا على ردود فعل تؤجج الوضع، إذا ما قامت بتقديم دعم استثنائي لقوات النظام والميليشيات المؤيدة له في مواجهة الجيش التركي والفصائل المسلحة للمعارضة السورية.
بدورها تراهن روسيا على استمرار الوضع على ما هو عليه، لجهة افتقار تركيا لدعم جدي من حلف الناتو، في ظل عدم وجود مؤشرات على أن واشنطن بصدد تزويد تركيا بمنظومة صواريخ باتريوت في القريب العاجل… حسابات تصب في مضمار سعي متبادل لامتلاك أوراق قوة يمكن أن تفرض نفسها على أجندات القمة والنتائج التي ستتمخض عنها.
في كل الحالات الجميع يدرك أن روسيا أطلقت رصاصة الرحمة على “مسار أستانا”، بدعمها للهجوم الواسع الذي شنه جيش النظام والميليشيات الإيرانية المتحالفة معه، وشاركت فيه الطائرات الحربية الروسية بمئات الغارات، التي أودت بأرواح المئات من المدنيين السوريين، وأوقعت آلاف الجرحى، فضلًا عن نزوح أكثر من مليون و700 ألف مدني من محافظة إدلب باتجاه الحدود مع تركيا، وفق أرقام أعلن عنها “فريق منسقو الإستجابة” بالشمال السوري.
لقد استطاعت روسيا خلال الأعوام الماضية، قبل وبعد “اتفاق سوتشي” استغلال تراخي المواقف التركية، وعملت على تقوية موقع نظام الأسد على حساب قوى المعارضة، وتنفيذ عملية قضم تدريجي للمناطق التي كانت تسيطر عليها الفصائل العسكرية للمعارضة. لكن يبدو أن روسيا أخطأت في حسابات فتح معركة إدلب، التي رأت فيها تركيا أنه تحشرها في الزاوية، وتعرض أمنها القومي لخطر كبير، وسبق لتركيا أن أعلنت غير مرة أن إدلب خط أحمر، تجاوزه سيؤدي إلى اقتراب من تصنفها تركيا بـ”مجموعات إرهابية” من الحدود التركية، وموجات جديدة وضخمة من اللاجئين نحو تركيا، في وقت تستضيف فيه تركيا أكثر من 3.5 ملايين لاجئ سوري، وهو ما دفعها للتلويح بورقة اللاجئين في وجه الاتحاد الأوروبي لإخراج السياسات الأوروبية من حالة اللامبالاة حيال الحرب على الشعب السوري.
ويبقى أن كلا الطرفين، التركي والروسي، يدركان أنهما يمضيان إلى القمة، في حال انعقادها، دون امتلاك أدوات تفتح الأفق أمام تسوية سياسية مقبولة، وهنا يأتي دور فصائل المعارضة بإعادة تصويب أوضاعها وتوحيد قواها لقطف الثمار السياسية لمعركة إدلب، بالتكاتف مع تركيا، بعد سنوات من الضياع في متاهة “مسار أستانا”، الذي شقه الكرملين على أنقاض “مسار جنيف” بعد إفراغه من مضمونه بالتفسيرات الخاصة من قبل كاهن السياسة الروسية لافروف.
ومن نافل القول؛ إن عودة الزخم لدور فصائل المعارضة يمكن أن يستنهض الموقف العربي في حدود ربما تكون مقبولة، دون إغفال محورية دور بعض الدول العربية في البحث عن مسار سياسي لإيجاد حل يضع حداً لنظام الاستبداد، ويؤسس لنظام ديمقراطي تعددي يحترم حقوق المواطنة لكل السوريين، ويكفل التداول السلمي للسلطة.
المصدر: بروكار برس