
في الأصل اليوناني لكلمة “Charisma” بالإنجليزية، بعد ديني. فهي تعني الموهبة. لكنها تشير إلى “التفضيل الإلهي” الذي يقف وراء منحها. وهي بالضبط الخاتمة التي تؤول إليها قناعة “القائد” الموصوم بـ “الكاريزمي”، حيال صفاته وقدراته الشخصية، وينجم عنها أثمان باهظة تدفعها الشعوب الخاضعة لحكم هذا “القائد”.
يحفل علم السياسة بالاختلاف في الموقف والتوصيف حيال دور “القائد الكاريزمي” في حياة الشعوب والأمم التي يقودها. وهناك تضاد كبير بين من يسبغ عليه إيجابية أكبر، مقابل من يصبغ عليه سلبية أكبر. إحدى أبرز المدارس في هذا السياق، تلك التي ترى مخاطر إسباغ صفة “الكاريزما” على “قائدٍ” ما، أكبر من الإيجابيات.
في مقدمة الجزء الأول من موسوعة “الحركات والأحزات والجماعات الإسلامية”، الصادر عن المركز العربي للدراسات الاستراتيجية بدمشق، مطلع هذا القرن، يرد تعبير ملفت -“النمط الكاريزمي الرسولي الآسر”-. استُخدم التوصيف في المرجع المشار إليه، بهدف الإضاءة على هوس حركات الإسلام السياسي بـ “القيادة الكاريزمية”. وهو هوسٌ مستمدٌ من أصول في الثقافة الغربية –الإغريقية بدايةً والمسيحية القروسطية تالياً-، وتحديداً، في الهوامش التي يختلط فيها الدين بالسياسة في مسعى قائدٍ ما لتعبئة جمهوره، أو بالاتجاه المعاكس، أي مسعى جانبٍ من جمهوره للذهاب بـ “القائد” إلى مرتبة أكبر من البشر العاديين.
قبل 3 سنوات، نشرت مجلة “كنعان”، قراءة ملفتة في كتاب، “قوة الكاريزما في زمن الثورة”، للأكاديمي الأميركي ديفيد بيل. ويتمحور الكتاب حول سؤال: “هل القيادة الكاريزمية من صنع القائد نفسه، أم مِن صُنع الذين اتبعوه واستلهموا منه؟”.
ووفق صاحب القراءة –الكاتب المصري، يحيى الطيب-، فقد برهن ديفيد بيل على حجته القائلة “إن الجماهير تُحب القادة الأقوياء الذين يحكمون باسمهم حتى من دون أن يعطي هؤلاء القادة أي سلطة أو قرار لتلك الجماهير”. وجاءت هذه البرهنة عبر دراسة نماذج تاريخية لقادة وُصفوا بـ “الكاريزميين”، ولعبوا أدواراً تاريخية في حياة شعوبهم، من بينهم، جورج واشنطن، ونابليون بونابرت، وسيمون بوليفار.
تقول المصادر، إن شارل ديغول، حالما تسلم مقاليد السلطة عام 1959، بدأ يتصرف وكأن العناية الإلهية هي التي اختارته لإنقاذ فرنسا من نفسها، كما سبق واختارته لإنقاذها من ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية.
من الاستنتاجات المهمة لتلك الدراسة، الإشارة إلى دور وسائل الإعلام في تحويل “الكاريزما الشخصية” إلى ظاهرة سياسية جماهيرية. وإشارة أخرى إلى أن “كاريزما الشخصية” كانت عامل تهديد للديمقراطية “الناشئة” في الغرب، في القرن التاسع عشر.
في عام 2016، نشر المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، دراسة مطوّلة بعنوان: “القيادة الكاريزمية والتحول الديمقراطي، دراسة حالة (عبد الناصر – ديغول)”. وتخلص الدراسة إلى أن كلاً من الزعيم المصري الراحل، جمال عبد الناصر، والزعيم الفرنسي الراحل، شارل ديغول، استغلا زعامتهما “الكاريزمية” بغية التفرّد بالحكم دون منازع، لكن مع اختلاف جذري في كيفية الوصول إلى السلطة والتجربة الديمقراطية لشعبيهما، مما أثّر على مآلات كل تجربة، بصورة مختلفة. ففيما جاء جمال عبد الناصر إلى السلطة بانقلاب عسكري ضد المَلكيّة، حظي لاحقاً بتأييد شعبي كبير، وصل شارل ديغول إلى السلطة بطريقة ديمقراطية. وفي حين عرقل عبد الناصر عملية التحوّل الديمقراطي في مصر، عبر إلغاء الأحزاب وفرضِ رقابة صارمة على حرية الصحافة والرأي والتعبير، عمل ديغول على الحد من دور الأحزاب وحرية الإعلام، لكنه لم يستطع الذهاب في ذلك بعيداً، بسبب التراث الديمقراطي الفرنسي. إذ واجه ديغول معارضة شرسة منذ منتصف الستينات، أجبرته على تقديم بعض التنازلات بهذا الصدد. وكخاتمة، لم يتخلَ عبد الناصر عن السلطة حتى وفاته، وذلك رغم الأثر السلبي لهزيمة حزيران 1967 على مكانته الشعبية، في المقابل، حينما تصاعدت المظاهرات المناوئة لديغول، طرح استفتاءً أعلن أن نتيجته هي التي ستحدد بقاءه في السلطة من رحيله. وجاءت النتيجة في غير صالحه، فترك السلطة فوراً.
يوضح السرد السابق لأمثلة وأدبيات متعلقة بقادة “كاريزميين”، كيف أن الشعوب ذات التجارب الديمقراطية الراسخة، هي الأقدر على لجم “القائد الكاريزمي”، كي لا يتحوّل إلى الضفة السلبية من “الكاريزمية”. ففي الضفة الإيجابية من هذا التوصيف، تلعب “الكاريزمية” أدواراً إيجابية في وقتٍ ما، في توحيد الشعوب وإلهامها. كما أن طريقة وصول “القائد” إلى السلطة، تحمل أثراً كبيراً هي الأخرى، في خاتمة تجربته وأثرها على شعبه. أما أهم خلاصة لما سبق، أن الجمهور، وبالذات، مؤثريه وإعلامييه، يلعب دوراً خطيراً في دفع “القائد الكاريزما” إلى الضفة السلبية لهذا التوصيف.
في حالتنا بسوريا، نزعم بأن الرئيس أحمد الشرع بات قريباً من خطر الوقوع بـ “لعنة الكاريزما”، بالمعنى السلبي للتوصيف. فحالات التمجيد لشخصه تتزايد، وتتورط فيها وسائل إعلام ومؤثّرون ورجال دين من الطراز الرفيع أيضاً.
تقول المصادر، إن شارل ديغول، حالما تسلم مقاليد السلطة عام 1959، بدأ يتصرف وكأن العناية الإلهية هي التي اختارته لإنقاذ فرنسا من نفسها، كما سبق واختارته لإنقاذها من ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية. تلك القناعة، هي الخطر الذي يحيق بحاضر سوريا ومستقبلها، إن باتت راسخة في ذهن الممسك بزمام أمرها، اليوم. وفيما لجم الفرنسيون بتراثهم الديمقراطي الراسخ، نوازع ديغول السلطوية وحدّوا من آثارها السلبية على مستقبل بلادهم، لا يتوافر لدينا في سوريا، ثرات مشابه من الحراك الديمقراطي الشعبي القادر على لجم النوازع السلطوية المتشكّلة لدى أحمد الشرع. مما يجعل خطر “النمط الكاريزمي” للقيادة أكبر من إيجابياتها. وفي ذلك، يتحمّل المسؤولية الأساسية، أولئك الممجّدون للحاكم الجديد، وخاصة منهم، من يصبغون صبغة دينية على مبررات دعمه.
المصدر: تلفزيون سوريا