
يحكي الفيلم التشيلي “في مكانها” (2024) حكاية “مرسيدس”، السكرتيرة القانونية التي تعمل مساعدةً لقاضي تحقيق. تدور الأحداث في عام 1955، حين تستحوذ عليها بحكم طبيعة عملها قضية الكاتبة التشيلية ماريا كارولينا خيل، التي أقدمت على قتل حبيبها رمياً بالرصاص في قاعة فندق، وعلى مرأى الحاضرين، بدافع الغيرة.
يصوّر الفيلم حياة “مرسيدس” العادية الرتيبة القاحلة الخالية من الدهشة زوجةً لرجل كسول اتّكالي يغيظها على الدوام بصوت شخيره العالي (يعمل مصوّراً في استوديو مرتجل في حجرة الجلوس)، وأمّاً لابنين مراهقين لا يقلّان عن أبيهما بلادةً وانعدام حساسية. يبدو بيتها ضيّقاً ومزدحماً وفوضوياً وخانقاً، يعتمد الذكور الثلاثة عليها بالمطلق، وهي المرأة العاملة المُتعَبة، إذ تخدمهم من دون أيّ مساعدة منهم. تنظّف ملابسهم وتعدّ طعامهم وتحتمل فوضاهم وكسلهم من دون احتجاج أو تبرّم، لكن ملامح وجهها تعبّر بقوة عن مدى القهر الذي تعانيه.
حين يُكلّف القاضي، الذي تعمل مساعدةً له، بالتحقيق في قضية الكاتبة القاتلة، تنخرط “مرسيدس” في تفاصيل القضية التي هزّت الشارع التشيلي، تغدو مأخوذة بشخصية الكاتبة، ويتكوّن لديها مزيج من مشاعر الرهبة والإعجاب والفضول، وهي تطبع على الآلة الكاتبة في جلسات التحقيق أقوال الشهود العيان، وشهادات أقارب وأصدقاء القاتلة، الذين يتحدّثون عن مزاياها وعيوبها وشخصيتها النزقة المضطربة والحانقة. تُكلَّف “مرسيدس” بناء على طلب الدفاع بإحضار ملابس نظيفة للقاتلة، التي احتُجِزت، فتسلّمها المحكمة مفتاح الشقّة. تفتح الباب وتأخذها على الفور جماليات المكان الأنيق الواسع، وحسن الإضاءة والترتيب، حيث أرفف الكتب وزوايا الأسطوانات ونباتات الزينة. تغوص في خزانة الثياب المكتظّة بالفساتين الفاخرة، وتحدّق بانبهار في محتويات طاولة الزينة من العطور وأدوات التجميل والإكسسوار. تُعدّ حقيبةً من مستلزمات السجينة، وتسلّمها للمحامي، غير أنها تتغافل عن إعادة المفتاح، لتبدأ مغامرتها الصغيرة في ارتياد ذلك المكان الذي وقعت في غرامه، تواظب على الذهاب إليه، تنظّفه وتسقي النباتات وتعدّ طعامها، وتأكل على مهلها، وتستمع إلى الموسيقى الهادئة، وتستحمّ من دون أن تنقطع المياه كما يحدث في بيتها. ترتدي ثياب المرأة الغائبة، وتضع عطورها ومساحيق تجميلها وطلاء أظفارها، وتتزيّن بمجوهراتها، حتى باتت تشبهها إلى حدّ كبير.
يساور زوجَها الشكُّ بعد أن لاحظ تغيير سلوكها ومظهرها، فيتبعها في أحد الليالي متيقّناً أنه سوف يضبطها متلبّسة بالخيانة، ليكتشف أن زوجته سطت على حياة القاتلة وتماهت معها، وأصبحت نسخةً منها. تقول له: “في بيتنا كثير من الفوضى، أحبّكم، لكني لم أعد احتمل ضجيجكم”. يغادرها الزوج حزيناً، وتُمضي شهوراً في وهمها الجميل، حتى تسمع عبر المذياع خبر صدور عفو رئاسي عن الكاتبة. ينتهي الفيلم وهي تودّع بنظراتها الحزينة تفاصيل الجنّة التي طُرِدت منها للتوّ، وتراقب من بعد عودة الكاتبة إلى بيتها سعيدةً بنيلها الحرّية، تلتقي نظرات المرأتين برهةً وجيزةً اختصرت كثيراً من المشاعر المتضاربة، وقد تكفّلت الموسيقى الساحرة بقول كلّ شيء.
فيلم “في مكانها” من إخراج المبدع مايتي ألبيردي، الذي تمكّن ببراعة محلّل نفسي محايد من التغلغل في عوالم المرأة الغامضة، شديدة التركيب، وقد طرح نماذج نسائية مختلفة من حيث الخلفيات الثقافية والاجتماعية، غير أن ثمّة خيط من المشتركات يجمعهن، نساء مرهفات الحسّ، عاجزات عن التعبير عن ذواتهن وآمالهن وتطلّعاتهن، رافضات واقعهن المرير في ظلّ تسلّط ذكوري يصادر حقّهن (حتى في الحلم) بأبسط الأشياء، كما ابدعت الممثّلتان، إليسا زولوتا وفرانشيسكا لوينفي، في تجسيد الشخصيتَين الرئيستَين بأحزانهما وهواجسهما وخيباتهما المتكرّرة.
“في مكانها” فيلم ذكي عميق قليل الكلام، محتشدٌ بالجماليات، من حيث الإخراج والسيناريو وتصاميم الأزياء، التي عبّرت عن مرحلة الخمسينيّات بكلّ إتقان، وهو جدير بالمشاهدة والتأمّل.
المصدر: العربي الجديد
عرض جميل للفيلم التشيلي “في مكانها” والوهم الجميل من الناقدة “بسمة النسور” الفيلم يروي حكاية “مرسيدس”، السكرتيرة القانونية التي تعمل مساعدةً لقاضي تحقيق. تدور الأحداث في عام 1955، فيلم ذكي عميق قليل الكلام، محتشدٌ بالجماليات، من حيث الإخراج والسيناريو وتصاميم الأزياء، التي عبّرت عن مرحلة الخمسينيّات بكلّ إتقان، وهو جدير بالمشاهدة والتأمّل.