هل تعود تونس إلى رشدها؟

محمد خليل برعومي

أفرج القضاء التونسي أخيراً عن بعض المعتقلين، رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة السابقة سهام بن سدرين (المكلّفة ملف العدالة الانتقالية)، والوزير والنائب السابق رياض المؤخّر، والصحافي محمد بوغلاب، وسط جدل سياسي وانقسام في الآراء، بين مرحب بكلّ خطوة تقوم بها السلطة في اتجاه تحرير المعتقلين ورفع المظالم عن المعارضين وأصحاب الرأي، في مقابل تساؤلات وشكوك طرحها بعض أنصار انقلاب 25 يوليو (2021) عن علاقة هذه القرارات القضائية بتصريحات المفوّض الأممي السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، قبل أيام، ودعوته السلطات التونسية إلى “احترام الحقّ في حرّية الرأي والتعبير”، ومطالبته بالإفراج الفوري (وغير المشروط) عن جميع المعتقلين تعسّفاً، وضمان المحاكمة العادلة، ومراعاة الأصول القانونية الواجبة لمَن وُجِّهت إليهم تهمٌ بارتكاب جرائم. كما طالبت المفوضية بإعادة نظر السلطات التونسية بتشريعاتها الجنائية، وضمان توافقها مع قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان ومعاييره.

تحتاج تونس إلى عقلنة وترشيد الممارسة السياسية للمعارضين والسلطة

أثارت التصريحات الأممية الريبة والقلق لدى فريق من أنصار الرئيس حول تعرّض تونس إلى ضغوط خارجية بشأن إطلاق سراح المساجين السياسيين واحترام حقوق الإنسان، الذي اعتبره بعضهم تعدّيا على السيادة الوطنية، وتدخّلاً في الشأن الداخلي، في تجاهل كلّي لتاريخ بلدهم الحديث، وعلاقاته القانونية والحقوقية الدولية، وتبعاتها السياسية. إذ لا غرابة (نظرياً ودبلوماسياً) في استجابة السلطة لجزء من مطالب الأمم المتحدة، بسبب المعاهدات والاتفاقيات التي صادقت عليها الدولة التونسية، مثل العهود الدولية الخاصّة بالحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية مناهضة التعذيب. فبموجب هذه المعاهدات، تلتزم تونس بتقديم تقاريرَ دوريةٍ إلى لجان الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، التي تقوم بمراجعة سجلّها الحقوقي وإصدار توصيات. كما تخضع تونس (كغيرها من الدول) للاستعراض الدوري الشامل، الذي تقوم به الجمعية كلّ أربع سنوات، ليقيّم لاحقاً مدى التزامها بحقوق الإنسان، بناءً على تقاريرَ حكوميةٍ وأخرى من منظّمات المجتمع المدني. ومع ذلك، اختار نظام قيس سعيّد، ممثَّلاً في وزارة خارجيته، الردّ على تصريحات المفوّض الأممي بلهجة حادّة، فعبّرت الوزارة في بيان عن رفضها تلقّي الدروس في حقوق الإنسان من أيّ جهة، واستنكرت ما اعتبرته تدخّلاً في الشأن الوطني، وما وصفته بالمغالطات بخصوص وضع الحقوق والحرّيات في البلاد، مشيرة إلى أن تونس يمكن أن تعطي دروساً لمن يعتقد أنه في موقع يتيح توجيه بيانات أو دروس.
بعيداً من البيانات الخشبية، تمثّل عملية الإفراج عن المساجين السياسيين أو معتقلي الرأي مكسباً للصفّ الديمقراطي الوطني، رغم رمزية ومحدودية القرارات، ومتنفّساً للسلطة للتخفّف من بعض الضغوط المتزايدة في الداخل والخارج، رغم ما أثبتته العملية من تدخّل السلطة التنفيذية في القضاء، وتحويل قصور العدالة أجهزةَ تنفيذ تعليمات. إن تونس في أمسّ الحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى عقلنة وترشيد الممارسة السياسية للمعارضين والسلطة على السواء، لتتجاوز أقداراً من أزماتها المتعدّدة، ولحماية مكتسبات الدولة التي راكمتها منذ عقود، بينما تهدّدها الشعوبية من ناحية، وأخطار التمزّق المجتمعي من جهة أخرى، وهو ما يستوجب على المعارضة أولاً، تجاوز المناكفات التي كانت تسمح بها نسبياً مناخات الحرّية، وتظهر صورها في تغييب جزء من العلمانيين ضحايا القمع من الإسلاميين والمحافظين، في تحرّكاتهم النضالية أو في بياناتهم ومواقفهم، وفي رفض جزء من التيّار المحافظ الواسع التضامن مع ضحايا الاستبداد من النخب السياسية والفكرية والإعلامية المعروفة بمعاداتها لهم في عشرية الثورة والديمقراطية، وهو ما تستغلّه السلطة الحاكمة وأدواتها في مزيد من تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ وإلغاء ظروف وأسباب التقاء المعارضة على كلمة الحرّية. ولعلّ ذلك ما جعل كثيرين يُعبّرون عن مخاوفَ من محاولة السلطة القائمة استغلال سيطرتها على المشهد، وحالة التنافر المتواصلة في صفوف المعارضة، لإجراء مصالحات أو اتفاقات محدودة ومشروطة مع جهات سياسية على حساب أخرى، حتى تحافظ على شيء من توازناتها واستقرارها في الحكم، وتتجاوز بعض المطبّات.

تحتج تونس العودة إلى دولة المؤسّسات وفصل السلط عن بعضها، بدلاً من تحويل القضاء والبرلمان وظائفَ خاضعةً للسلطة التنفيذية

ثانياً، حاجة تونس إلى العودة إلى الرشد، ليس بالمعنى القيمي النظري، وإنما بالعودة إلى دولة المؤسّسات عِوضاً من دولة الفرد، وفصل السلط عن بعضها، بدلاً من تحويل القضاء والبرلمان وظائفَ خاضعةً للسلطة التنفيذية، التي يمسك بتلابيبها شخص واحد، واحترام الحقوق والحرّيات وعلوية القانون على الجميع، حاكماً ومحكومين، عوض تركيز حكم قهري يختزل سيادة الدولة في التسلّط على المواطنين، هذه الحاجة الوطنية الملحّة يمكن في حال توافرها أن تمنح النظام القائم فرصةَ إنعاش الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتهاوي، وتأثيراته في ثقة الشعب فيه، وتدارك عزلته السياسية الداخلية والخارجية، التي جعلته يختزل سياساته في مقاربات أمنية صرفة، وإنقاذ هياكل الدولة وأجسامها الوسيطة التي تُعدّ مكسباً مدنياً تونسياً.
إن العودة إلى الرشد والحقّ فضيلة. هكذا وصفها أهل السبق، وهكذا يمنّي نشطاءُ أنفسهم بعد الإفراجات الماضية. في مقابل ذلك، تكرّر دائرة الموالاة للرئيس أن المرونة في الحركة أحياناً لا تُلغي التمسّك بمبدأ “لا عودة إلى الوراء”، لتختبر الأيّام المقبلة صدقية نبوءة الانفراجة السياسية المزعومة، التي يكرّرها بعضهم، ومدى قابلية المشهد التونسي للعقلنة، سيّما مع اقتراب موعد محاكمة عدد من القيادات الحزبية والسياسية بداية شهر مارس/ آذار المقبل، بتهم التآمر على أمن الدولة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. هل يمكن أن تعود تونس الى مسارها الوطني الديمقراطي؟ إنه ستحتاج إلى عقلنة وترشيد الممارسة السياسية للمعارضين والسلطة، وذلك بالعودة إلى دولة المؤسّسات وفصل السلطات، بدلاً من تحويل السلطة القضائية والتشريعية لوظائفَ خاضعةً للسلطة التنفيذية.

اترك رداً على khatib yehya إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى