الفاشيّة في أميركا بأقبح تجلّياتها

أسامة أبو ارشيد

اعتقال الناشط الطلابي الفلسطيني محمود خليل من منزله في نيويورك، من سلطات الهجرة الفيدرالية الأميركية (8 مارس/ آذار 2025)، ما هو إلا مقدّمة لـ”اعتقالات مقبلة”، كما قال الرئيس دونالد ترامب نفسه. كان محمود خليل، قبل إنهائه شهادة الماجستير من جامعة كولومبيا، من الطلاب الذين قادوا الاعتصامات الطلابية السلمية في الجامعات الأميركية العام الماضي (2024)، احتجاجاً على دعم الولايات المتحدة حرب الإبادة الإسرائيلية الوحشية في قطاع غزّة. ومعلوم أن معظم تلك الاعتصامات فضَّتها بطريقة عنيفة الأجهزة الأمنية، بالتعاون مع إدارات الجامعات، التي فصلت أو علّقت دراسة عدد من طلابها. كما تعرّض بعض تلك الاعتصامات لهجمات دموية من بلطجية، بعضهم طلابٌ مؤيّدون لإسرائيل، أمام ناظري قوات الأمن، كما في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس (أواخر إبريل/ نيسان 2024). ولكنّ ترامب، على عكس سلفه جو بايدن، لا يهتم بالتغليف الديمقراطي للقمع والفاشية، بل إنه يعبّر عن نياته ودوافعه بكلّ وقاحة وصلافة، عندما يقول إن إدارته “لن تتسامح مع أنشطة مؤيّدة للإرهاب، ومعادية للساميّة، ومعادية لأميركا”.

لا يعني ترامب الحقيقة هنا، ذلك أن كثيرين من الطلاب الذين اعتصموا ضدّ شراكة إدارة بايدن في جريمة حرب الإبادة في غزّة وتواطؤ جامعاتهم مع الاحتلال الإسرائيلي، كانوا يهوداً ومسيحيين، بيضاً وسوداً، ومن الخلفيات الدينية والعرقية كلّها، بمن فيهم طلاب فلسطينيون وعرب ومسلمون، أميركيون ومقيمون شرعيون. بالنسبة إلى ترامب، كما كان الحال تحت إدارة بايدن، وإن اتّسمت نبرة الأخير بالبحث عن توازنٍ بين حقّ التعبير والتجمّع السلمي المحميِّ بالتعديل الدستوري الأوّل، وبين التحريض وقمع الحراكات الطلابية بذريعة جنوحها إلى ترهيب الطلاب اليهود أو الاعتداء عليهم وتخريب ممتلكات الجامعات… بالنسبة إلى ترامب، نظّم الحركات الطلابية “محرّضون مأجورون” لا طلاب. وهو لا يتردّد بالتهديد الفاضح بالقول “سنعثر على هؤلاء المُتعاطفين مع الإرهاب، ونُلقي القبض عليهم، ونُرحّلهم من بلدنا ولن يعودوا أبداً”. مضيفاً: “إذا كنتم تدعمون الإرهاب، بما في ذلك قتل الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، فإن وجودكم يتعارض مع مصالح سياستنا الوطنية والخارجية، وأنتم غير مرحّب بكم هنا. نتوقّع من جميع الكليات والجامعات الأميركية الامتثال”. ولا يكتفي ترامب بذلك، بل ألغت إدارته 400 مليون دولار من المنح والعقود الفيدرالية لجامعة كولومبيا، بذريعة سماحها بـ”احتجاجات غير قانونية”، رغم أنها كانت واحدةً من الجامعات التي تعدّت على حقّ طلابها بالاعتصام السلمي، وسمحت لقوات أمن نيويورك باقتحام حرمها وقمع واعتقال طلابها.

ألغت إدارة ترامب 400 مليون دولار من المنح والعقود الفيدرالية لجامعة كولومبيا، بذريعة سماحها بـ”احتجاجات غير قانونية

نعود إلى قصّة محمود خليل، الذي لا يزال في سجن فيدرالي في ولاية لويزيانا للنظر في قرار إدارة ترامب ترحيله من الولايات المتحدة. محمود المتزوّج من مواطنة أميركية حامل في شهرها الثامن، ويحمل الإقامة الدائمة (الكرت الأخضر)، وجد نفسه ضحيةً لبند في قانون الهجرة والجنسية، عفا عليه الزمن ويعود إلى حقبة الحرب الباردة، يسمح لعملاء الهجرة الفيدراليين باعتقال مقيم دائم قانوني واحتجازه لمجرّد ممارسة حقّه في حرية التعبير المحمي دستورياً، إذا استنتج وزير الخارجية أن وجود ذلك الشخص وأنشطته “قد تكون لها عواقب وخيمة محتملة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة”. نادراً ما استخدمت سلطات الهجرة هذا البند القانوني المريب، بدليل أن أغلب المحامين وأعضاء الكونغرس لم يكونوا يعرفون بوجوده أصلاً. ومع ذلك، استند وزير الخارجية ماركو روبيو إليه في مسعاه إلى إلغاء البطاقة الدائمة لمحمود وترحيله، من دون أن يكلّف نفسه عناء تفسير وتفصيل كيف أن وجوده وأنشطته “قد تكون لها عواقب وخيمة محتملة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة”. أمّا وزارة الأمن القومي، التي تعتقل محمود، فلم تورد نصّاً دستورياً أو قانونياً يتيح لها اعتقاله، بل إن من مسؤولين فيها قالوا إنه ليس متهماً بارتكاب أيّ جريمة على الإطلاق. ومع ذلك، قالت الوزارة في بيانها إن اعتقاله جاء “دعماً للأوامر التنفيذية للرئيس ترامب التي تحظر معاداة السامية”. وزعم بيان الوزارة أن محمود “قاد أنشطةً متحالفةً مع حماس، المنظّمة المصنفة إرهابية”، من دون تقديم أيّ تفاصيل أو أدلّة.

يكمل ترامب، ويطوّر ويزيد في توحّش، ما خطّه بايدن من استهداف للنشطاء الأميركيين المعارضين لدعم واشنطن لإسرائيل

وكان ترامب قد وقّع أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي قراراً تنفيذياً بإلغاء تأشيرات الطلاب وترحيل “المتعاطفين مع حماس”. كما أمر وزارة العدل بـ”قمع أعمال التخريب والترهيب المؤيدة لحماس، والتحقيق في العنصرية المعادية لليهود في الكلّيات والجامعات اليسارية المعادية لأميركا ومعاقبة مرتكبيها”. وتوصيفات ترامب هنا زائفة وتحريضية، فالاعتصامات الطلابية كانت في مجملها وغالبها سلمية، ومن يتعرّضون للتمييز هم الطلاب المعارضون لإجرام إسرائيل لا العكس، والكلّيات والجامعات الأميركية في معظمها كانت (ولا تزال) شريكةً في قمع أيّ صوت مؤيّد للحقوق الفلسطينية. ومن ثمَّ، وكما خلص محامو محمود وأعضاء في الكونغرس، فإن احتجازه غير قانوني، وإنما اختير “مثالاً لقمع المعارضة المشروعة تماماً في انتهاك للتعديل الدستوري الأول”. وكما قال الاتحاد الأميركي للحرّيات المدنية، اعتقال محمود خليل “غير مسبوق، وغير قانوني، وغير أميركي”. وفي الحقيقة، المنظّمات الصهيونية، كرابطة مكافحة التشويه والشخصيات المحسوبة على اللوبي الصهيوني، مثل ألين دورشويتز، هي من مارست التحريض على الطلاب المؤيدين للحقوق الفلسطينية، وعلى كلّ شخص تجرّأ أن يرفع صوته معارضاً لجريمة الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، والشراكة الأميركية الكاملة فيها.

يدرك كاتب هذه السطور نفسه، من تجربة شخصية، حقيقة الفاشية الأميركية، عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، ولا يفرق الأمر هنا تحت إدارة بايدن السابقة أم تحت إدارة ترامب الراهنة. صدّع بايدن رأس الأميركيين والعالم بحديثه المملّ والمتكرّر عن “الديمقراطية في مواجهة الأوتوقراطية”، في سياق مقارنته النموذج الأميركي مع النموذجَين، الصيني والروسي، كما حذّر مراراً وتكراراً من “الخطر” الذي يمثّله ترامب على الديمقراطية الأميركية. لكن، الحقيقة أن إدارة بايدن هي التي بدأت باستهداف النشطاء الأميركيين المعارضين لدعم إدارته للوحشية الإسرائيلية في قطاع غزّة، فقد وضعت كثيرين من هؤلاء النشطاء (بعضهم يهود) في قوائم “المشتبه بهم في الإرهاب”، وضايقتهم في المطارات، وفصلتهم من وظائفهم. أمّا ترامب، فإنه يكمل ويطوّر ويزيد في توحّش ما خطّه بايدن. إنها الفاشية الأميركية التي لها سوابق كثيرة على مدى العقود والقرون الماضية، مغلّفةً بغلاف مزاعم “الديمقراطية” و”الليبرالية” و”حقوق الإنسان”. ومن يدري، فحتى هذا المقال قد يكون دليلاً حكومياً يوماً ما ضدّ كاتبه بذريعة “معاداة أميركا”. ومن يدري إلى أيّ بندٍ غامضٍ لا يعرف عنه أحد في ترسانة “القمع القانوني” الأميركية ستستند إليه الحكومة، فالدستور وتعديلاته التي تحمي حرّية التعبير وحرّية العبادة وحقّ المعارضة وحقّ التجمّع والتظاهر… كلّها اليوم أصبحت محلّ شكّ وتشكيك وتعدٍّ من الحكومة باسم الدفاع عن “مصالح أميركا العليا”.

المصدر: العربي الجديد

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى