تصريحات موسى أبو مرزوق… ما المشكلة؟

خالد الحروب

نقطتان أساسيتان أثارتا جدلاً كبير، وصحياً، في مقابلة القيادي في حركة حماس، موسى أبو مرزوق، مع صحيفة نيويورك تايمز أخيراً؛ أنه لو قدّر (هو أو “حماس”) مُسبقاً ما ترتّب على هجوم 7 أكتوبر (2023) لعارضه، أو لما قامت به “حماس”. والثانية أن سلاح الحركة قابل للتفاوض عليه. كلّ من هاتَين النقطتَين تحمل وجاهةً ولا تستحقّ الهجوم العاطفي الذي جوبهت به.
ابتداءً، كاتب هذه السطور من الذين جادلوا ضدّ نُقّاد هجوم 7 أكتوبر منذ لحظته الأولى، على قاعدة ضرورة ربطه بالسياق الأوسع، واعتباره حلقةً من سيرورة تحرّرية طويلة ملتحمة عضوياً مع نضال الشعب الفلسطيني خلال قرن. ما كان قبل “7 أكتوبر” هو حزمة من الإماتة البطيئة، والقتل الصامت في حصارٍ لا إنساني مُذّل. أما فيما يخصّ تصريحات أبو مرزوق، فمن المهمّ استدعاء سياق قريب معلوم. في السنوات الماضية من الحصار، وعلى الأقلّ منذ 2017، وبحسب تصريحات واضحة للشهيد يحيى السنوار، حاولت “حماس” تقديم كثير من أجل تفادي الانفجار الغزّي، الذي كان يتوقّعه كثيرون. قال السنوار، في مؤتمر صحافي شهير وطويل، بعد معركة سيف القدس 2021، ما يفيد بأن أولوية “حماس” من وسائل هي المقاومة السلمية، وقد حاولتها في مسيرات العودة، وغيرها، وكانت تأمل أن يستمع العالم لها، ويفكّ الحصار عن غزّة، وقال إن حركته غير معنية بحكم غزّة، وقدّمت تنازلاتٍ للسلطة في رام الله لتشكيل حكومة وطنية، وقال إن “حماس” اضطرّت إلى معركة القدس دفاعاً عن الأقصى، وأن تلك المعركة “بروفة” لما قد يأتي من إعصار، إن لم يتحرّك العالم. ولذلك، وجّه رسالة إلى الرئيس الأميركي (السابق) جو بايدن والعالم في ذلك المؤتمر الصحافي، طالبه فيها بإجبار إسرائيل على القبول بما يقبل به الفلسطينيون، أي دولة فلسطينية في حدود 1967، وعاصمتها القدس. وسابقاً لأقوال السنوار الواضحة في المؤتمر، والمتوافرة في الإنترنت، ثمّة تصريحات لقادة من “حماس”، كانت جليةً في تحديد مهمّة المقاومة وسلاحها، وهي التحرير، وبأن المقاومة ذاتها ليست هدفاً، بل وسيلة لتحقيق هدف.

من الطبيعي أن تخطئ تقديرات “حماس”، لكن ما هو غير طبيعي ألا تتعلّم من أخطائها

وفي السجالات الطويلة والكثيفة بشأن “7 أكتوبر”، ومنذ الأسابيع الأولى، التي حامت حول أكلافه العالية، وليس على مبدأ حقّ المقاومة، كان كثيرون (وأنا منهم) يجادلون بأن أيّ نقد أو مساءلة لقرار المبادأة بهجوم 7 أكتوبر يجب أن يؤجّل إلى ما بعد الحرب، وأن واجبنا جميعاً خلال استعار المعركة هو الوقوف مع المقاومة، وضدّ الإجرام الإسرائيلي الأميركي الإبادي، الذي بدا واضحاً أنه يريد توسيع أهداف الحرب وجلب ملفّ التهجير من رفوف التفكير الصهيوني العنصري، ونفض الغبار عنه، استغلالاً للفرصة.
وعملياً، ما زلنا في مطحنة الحرب والتحدّيات المخيفة، التي تواجه الشعب الفلسطيني. بعد انجلاء كثير من الغبار، يُصبح كثير من النقاش المُؤجّل مشروعاً ومطلوباً، ومن الضروري استخلاص العبر، لكنّ المشكلة إزاء النقاش حول “7 أكتوبر” ومنعكساته في الحالة الراهنة وسؤال “إلى أين؟”، أن ذلك كلّه محفوف بالتوتّر وتسجيل النقاط والاستغلال غير الوطني، ولا يتّسم كثيره بالنقد البنّاء، بل الهدّام، الذي يريد اقتناص فرصة ما لتدمير الآخر وإزاحته من المشهد كلّياً.
على أيّ حال، وبرغم الحال الشائك والمتشكّك، من المهم إثراء النقاش. ومن هنا، يمكن القول إن رأي أبو مرزوق في النقطة الأولى، وهي عدم مبادرة “حماس” بالهجوم لو عرفت مُسبقاً حجم الردّ الإسرائيلي الأميركي، ينم عن مسؤولية وجرأة، ويُسجّل له لا عليه. يقول هذا الرأي إن “حماس” ليست عدميةً، وإن تقديراتها تأخذ بالحسبان الأكلاف التي يتعرّض لها الشعب على خلاف الاتهامات التي توجّه إليها. ومن الطبيعي أن تخطئ تقديرات الحركة مثل أيّ حركة تحرير أخرى أو أيّ حزب سياسي، لكن ما هو غير طبيعي ألا تتعلم من أخطائها.
في مسيرة النضال والثورة الفلسطينية، هناك أدبيات كثيرة حول تجربة الثورة الفلسطينية وتنظيماتها في الأردن، وكيف أخطأت في تحدّيها سلطة الحكم في الأردن، ما قاد إلى صدامات “أيلول الأسود” المؤسفة مع الجيش الأردني، التي أدّت إلى مقتل آلاف من الطرفَين. ومعظم (إن لم يكن كلّ) السياسيين الفلسطينيين، الذين عاشوا تلك المرحلة، وكانوا من قادتها، يقولون بالفم الملآن إنهم ما كانوا ليقبلوا بشرارة تلك الأحداث لو أدركوا مُسبقاً ما آلت إليه. وثمّة تقديرات وبدرجات مُتفاوتةٍ مُتعلّقة بمسبّبات الإجتياح الإسرائيلي وحرب 1982، التي أدّت إلى استشهاد ما يقارب من عشرين ألف فلسطيني ولبناني، وإصابة ضعفهم.
السؤال النظري والاسترجاعي، الذي قد يدين “حماس” بالفعل، هو: لو فرضنا جدلاً أن “حماس” كانت تعرف مُسبقاً نتائج “7 أكتوبر”، وحجم المقتلة التي ولغ فيها الإجرام الإسرائيلي، والضوء الأخضر المُذهل، الذي تمتّعت (ولا تزال) به، ممّا يُسمى “المجتمع الدولي”، الذي وقف (ولا يزال) متفرّجاً، هل كانت لتستمرّ في خطّتها في ذلك الهجوم؟… إجابة أبو مرزوق على هذا السؤال الافتراضي مسؤولة ووطنية، والتحدّي الذي يواجه مُنتقدي هذه الإجابة يكمن في امتلاك الجرأة للقول علناً عكس ذلك، أي القول بوضوح: حتى لو كانت “حماس” تعرف مُسبقاً كلّ النتائج التدميرية فإنها كانت ستقوم بما قامت به.

تتنفس تصريحات أبو مرزوق من رئة سياسية وليست عدمية، وتخلق مساحات لـ”حماس” كي تناور وترمي الكرة في ملعب العدو والآخرين

المسألة الثانية المُتعلّقة بسلاح المقاومة أكثر حساسية من النقطة الافتراضية السابقة، لأن سلاح المقاومة موضوع مطروح وغير افتراضي. من ناحية نظرية بحتة، على الفلسطينيين و”حماس” عدم تقديس الوسيلة على حساب الهدف. لو فرضنا جدلاً (أعرف أن هذا الفرض غير مطروح حالياً) أن هناك حلّاًٍ سياسياً يتجمّع في الأفق، يدفع نحو دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزّة والقدس الشرقية، في مقابل إنهاء المقاومة، هل سترفضه “حماس” وتواجه العالم والشعب الفلسطيني بهذا الرفض؟… على ذلك، يفتح أبو مرزوق و”حماس” كوّةً في جبهة الآخرين بطرح قوي، يقول إن سلاح المقاومة ليس مسألةً أبديةً، وهو منوط بتحقيق أهداف وطنية كُبرى. “حماس” ليست تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ولا “القاعدة”، تقاتل من أجل القتال وحسب، بل تقاتل لتحقيق هدف وطني. إذا كانت “حماس” تقاتل من أجل القتال فقط، عليها أن تقول ذلك بوضوح للفلسطينيين.
تتنفس تصريحات أبو مرزوق من رئة سياسية وليست عدمية، وتخلق مساحات لـ”حماس” كي تناور وترمي الكرة في ملعب العدو والآخرين، وفلسطينياً تقول إن حركته تتمتّع بالجرأة لتقول ما قاله بشّأن “7 أكتوبر” ونتائجه.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى