أثارت تصريحات الأستاذ هيثم المالح على (تلفزيون سوريا) ضمن برنامج (الذاكرة السورية) ردود فعل واسعة وفتحت نقاشًا طويلًا حول شخص “شيخ الحقوقيين” والمختطفين الأربعة وقضايا على صلة بالنشاط المعارض في حقبة ما قبل، ومابعد، الثورة، وكلها مسائل تستدعي الحديث عنها والتوقف عندها.
وإن كان من المتعذر تناول كل ذلك، هنا، في هذا الحيز الضيق، فإني سأقف فقط عند التجاوزات التي حصلت في بيئة الثورة وصفوفها وحاضنتها، ومنها قضية رزان زيتونة ورفاقها، وكلهم لا يقلون أهمية عنها، باعتبارها قضية وطنية وقضية رأي عام لايجوز طيها، أو نسيانها، دون كشف كامل ملابساتها، وإعادة الاعتبار لضحاياها، خصوصًا أن شهودها أحياء بيننا، ومعاناة أصحابها وذويهم مستمرة.
هناك عشرات بل مئات الجرائم (ولا يمكن توصيفها بغير ذلك) وآلاف الانتهاكات التي حصلت في المناطق التي خضعت لسلطة الجماعات التي حملت أسماء مختلفة، ورايات متعددة، كانت نتيجتها تشويه الثورة وحرفها عن مسارها، وغاياتها، التي انطلقت لأجلها، وأدت فيما أدت الى ما وصلنا إليه اليوم من مأزق واستعصاء وطني كبيرين.
فمن السخف إعادة أسباب، اختطاف رزان ورفاقها، يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول 2013 لمخالفتها قيم وتقاليد وأخلاق البيئة الشعبية المحافظة في دوما، وأن لا يحمل ذلك إدانة لفعل مستهجن ومرفوض وفق كافة المواثيق والشرائع الحقوقية والقانونية.
من المستغرب أن لا تتم الإشارة والحديث، في السياق ذاته، عن حالات تكميم الأفواه، والاعتقالات العديدة وفظاعات سجون من أدعوا أنهم “ثوار” و”محررين”، وصولاً لتصفية شخصيات وطنية ذات تاريخ نضالي عريق كالشهيد محمد فليطاني الذي اغتيل أمام منزله 1 آيار / مايو 2014 على خلفية قناعاته الفكرية والسياسية، العَلمانية أو اليسارية أو الوطنية، والاعتداء اغتيالاً على شخصية وطنية كبيرة بحجم الشهيد الدكتور عدنان وهبي التي ماتزال قضية اغتياله محل تقديرات مختلفة.
كما أن المنطق السليم، والتحليل الموضوعي، عليه أن يربط ذلك، أو يعيده، إلى طبيعة الجماعات التي سيطرت على الأرض ومنهجها في التفكير، وغاياتها المتجاوزة للحدود الوطنية، وأساليبها في تبرير سلوكها الشائن، وغير بعيد عن ذلك طبيعة وظروف نشأة هذه الجماعات وماوجدته من دعم إقليمي، في سياق تصورات لمرحلة بدت، للواهمين، أنها فرصة مواتية، ولحظة مناسبة، تلاقت مع رغبة شعبية جامحة في التغيير والإنصاف.
لايمكن البحث عن مخارج للأزمة الوطنية الحالية والخروج من نفقها المظلم دون العودة لتقييم ماجرى والبناء عليه في إطار المراجعات الوطنية، وفهم مقتضيات الشراكة الوطنية، ولا يمكن استرداد الحاضنة الشعبية، التي بدأت علائم تراجعها تظهر واضحة ومقلقة، دون فتح كافة ملفات التجاوزات وتحميل المسؤوليات ورد المظالم إلى ذويها، انطلاقًا من أساسها الأخلاقي والسياسي، خصوصًا أن السلوكيات نفسها، والممارسات ذاتها، مستمرة، هنا وهناك، وبدعم من أكثر من جهة، لا تريد خيرًا لسورية وأهلها وثورتها العظيمة.
تقتضي الموضوعية القول أنه يمكن تفهم الكثير من الظروف التي أحاطت ببعض التجاوزات وليس كلها، ويمكن تبرير بعضها في سياقاتها التي حصلت بها، ولكن الأصل والأساس الذي انطلقت منه عائد لطبيعة وبنية القوى التي تحكمت برقاب الناس وثقافتها وانخداعها بذاتها، بل بارتباطات بعضها بشكل مشبوه.
بالعودة إلى الأستاذ هيثم المالح وما قاله فمن الغريب أن اصطفافاتنا ما تزال حول الأشخاص وليس المواقف، وجذر ذلك أيديولوجي وسياسي، ومن الحكمة مراجعة مسار الرجل، وأدائه، وكل من تصدر المشهد العام وفق الثوابت الوطنية، أين أخطأ وأين أصاب، ماله وما عليه، لماذا فشلنا ولم ننجح، ولماذا وصلنا إلى مأزقنا الحالي..؟
للرجل تاريخ مشرف اتفقنا معه أو اختلفنا، وله اجتهاداته الصائبة والفاشلة، ولكن هذا لا يعني الصفح والتجاوز عن أخطائه الكبرى التي أثرت كثيراً على مصداقية وسمعة الثورة، ولعلنا نذكر تصريحاته وإعلانه عن انشقاق فاروق الشرع أكثر من مرة، وتفجير ماعرف بمقر خلية الأزمة، وتهريب طل الملوحي الذي ما يزال مصيرها حتى الآن مجهولًا.
في كتابه المهم (عطب الذات) أشار الدكتور برهان غليون إلى أن أحد معوقات عمل المجلس الوطني مع بدايات الثورة كان يتعلق بظن الأستاذ هيثم المالح أنه الأجدر والأكفأ لقيادة تلك المرحلة، وتلك مصيبة في العمل العام الذي يتمحور حول الذات، وهو ماظهر واضحًا وجليًا في ماتحدث فيه الأستاذ هيثم المالح في البرنامج المشار إليه.
الضجة المثارة اليوم تعكس بشكل حقيقي أزمتنا، والاحتقان الذي نعيشه كسوريين، وحالة الانفعال والغضب مما نحن عليه، ومن مصيرنا المجهول، فلا نجد متنفسًا له غير الاحتراب مع ذواتنا، دون القدرة على تجاوز كل الفخوخ التي وقعنا فيها، التي نحن بأمس الحاجة إلى حوار صريح وشفاف حولها، ومراجعتها بشكل نقدي إيجابي.
أنصح الأستاذ هيثم المالح بالابتعاد عن الأضواء، وهي نصيحة لوجه الله، له ولمن مثله، فإذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.
المصدر: اشراق