لم تعد غزّة جزءاً من هذه الأرض التي نعرفها، ويسود فيها ما تعارف عليه البشر من مشاعر، كالخوف من الموت والتشبّث بالحياة، وإدمان الدعة ورغد العيش، والبحث عن حياة مليئة بالتفاصيل الكثيرة، وأجندات مزدحمة بالأهداف. “تعيش” غزّة حياةً أخرى، لا هي بحياة الدنيا ولا بحياة الآخرة، حياة أشبه ما تكون بالحالة البرزخية، لها قوانين خاصّة بها، تحكم حياة البرزخ بالمفهوم الإسلامي، وما نقوله هنا محض مقاربة أو تشبيه ومقارنة بين حياة الغزّي اليوم، وحياة البرزخ في العموم، لأن كلّ مقارنة عرجاء، كما يقول المثل الألماني، ولكنّنا نحاول رسم معالم صورة ما يعيشه الغزّي اليوم مقارنةً بما يعيشه بقية البشر على هذه الأرض.
يقول علماء الشرع إن البرزخ اسم ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، قال تعالى: ﴿… ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون﴾ (المؤمنون: 100)، وجاءت النصوص بإثبات الحياة في البرزخ، وهي حياة تخالف الحياة المعهودة في الدنيا، فالله سبحانه جعل الدور ثلاثاً، دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكلّ دار أحكاماً تختصّ بها، وركّب هـذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها.. وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها، فإذا كان يوم حشر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد.
يروي أحد الذين زاروا غزّة أنه وجد رجلاً يقيم في غرفة، هي ما بقي من بيته الذي تهدّم، طلب منه أن يخرج ليعيش في خيمة فأبى، وقال له إنه لن يبرح غرفته، وهو “سعيد” بها، وتؤنسه أسرته، فيسأله: “وأين هي أسرتك؟”، فيقول: “هم مدفونون تحت هذا الردم؛ الزوجة والأبناء”، وأشار إلى الجزء المهدّم من البيت. “طيّب تحتاج إلى شيء؟ هاتف مثلاً كي نتواصل معك؟ أكل وشرب؟”، يسأله، فيجيب: “لا أحتاج إلى شيء ممّا ذكرت، فلديّ كلّ ما أحتاج إليه، ولا حاجة لي إلى هاتف، أنا أتواصل معهم (!) وأنتظر أن ألتحق بهم في الجنّة، وأستعجل ذلك اللقاء على أحرّ من الجمر”.
وثمّة آلاف الحكايات التي يرويها أهل غزّة، أو من تمكّن من الوصول إليهم، عن “تعايشهم” مع الموت، الذي يخاف منه البشر، ويجزعون من ذكره، فهم أحرص الناس على لقاء أحبّتهم الراحلين، ويحرصون على الموت كما يحرص الآخرون على الحياة، ليس زهداً في الحياة أو كرهاً بها بل استعجالاً لما ينتظرهم من نعيم في الجنّة، مفتاحه ولعهم بالشهادة وسعيهم إليها، وطلبها حثيثاً، وتلك مرحلة من “التطهّر” الروحي يصعب على من أدمن التمرّغ في وحل الدنيا أن يفهم معناها، أو حتى أن يقترب من التفكير فيها.
لم تكن الحرب على غزّة تقليديةً بل كانت محاولةً لإنهاء الحياة بمظاهرها كلّها
لقد غطّت وسائل الإعلام المرئية كثيراً من حياة أهل غزّة، وطارت صور حياتهم البرزخية إلى أركان الدنيا الأربعة، لكنّها (بشهادة من عاين الواقع في أرض غزّة) لم تستطع أن تنقل الصورة الحقيقية بكلّ ما فيها من حكايات أقرب إلى الخيال، وربّما يتعيّن على من يريد تدوين يوميات غزّة بتفاصيلها كلّها أن يملأ آلاف المجلّدات عمّا لقيه القوم من أهوال، وما أبلوا في مواجهتها من صبر وتعايش يجلّ على الوصف، تبعاً لما تفنّن في ارتكابه عدوهم الصهيوني من أصناف الإجرام، الذي لا يشابهه شيء من إجرام شهده التاريخ البشري، فتلك لم تكن حرباً بالمعنى التقليدي للحروب، وإن اجتهد المحلّلون العسكريون في توصيفها وتصنيفها بأنها حرب هجينة أو غير متناظرة، ولكنّها في الحقيقة ملحمة اختلط فيها الواقع بالخيال غير المتخيَّل، وحرّكتها رغبة محمومة، ليس بالإبادة الجماعية والتطهير العرقي فقط، كما يقول المنصفون، بل كانت محاولةً لإنهاء الحياة بمظاهرها كلها، في كلّ سنتيمتر من مساحة غزّة، مع “إبداعٍ” وتفنّنٍ في الهدم والتخريب والحرق والقتل والتدمير، وبحسبة بسيطة يقال إن العدو ألقى مائة ألف طنٍّ من المتفجرّات على أرض غزّة، البالغة مساحتها 360 كيلومتراً، ما يعني أن كلّ متر مربّع نال نحو 30 كيلوغراماً من المتفجرّات، وتلك مقاربة لا تعبّر عن الواقع بدقّة، فقد قصف العدو مناطق كثيرة مراراً وتكراراً، وتعمّد أن يستهدف تجمّعات البشر، بغضّ النظر عن أنهم مقاتلون أو مدنيون، أطفال أم شيوخ، نساء أو رجال. هذا الكلام قيل كثيراً، لكن ما لم يُقَل بعد أن ذلك العدوان لن ينتهي قبل أن يأكل نفسه، ويدمّرها ذاتياً، فبرزخ غزّة لن يستسلم، والعدو لن يكفّ عن عدوانه، وسيستمرّ حتى “يقتنع” أنه مهزوم حتّى الثمالة، وحتى نصل إلى تلك المرحلة، سنشهد المزيد من الأهوال ليس في غزّة فقط، بل في بقاع كثيرة من هذا العالم، بعيدة كانت أم قريبة من مركز الحدث، ليس لأن غزّة تقع في منتصف العالم، بل لأنها جارة أيضاً لحدود العالم، حيث يقوم كيان تتكثّف فيه كلّ ما مرّ بين الشرق والغرب من صراعات، ويشكّل مستودعاً لكلّ ما أنتجه الغرب الاستعماري من أدوات للقتل وتغيير المفاهيم وتحويل الإنسان عبداً مستلباً مستهلكاً مستسلماً، غير فاعل، بل مفعولاً فيه أبداً، وما حدث أن برزخ غزّة تمرّد على كلّ ما أريد له أن يكون إنسانه، فتحوّل هدفاً للإزالة، وتلك هي المعضلة، فإنسان غزّة غير قابل للاستجابة لهذه الآلية، ومن يقابله يرفض حتى الآن التسليم بهذه الحقيقة، لهذا سيبقى “يناطح” الحائط الصلب حتى تنكسر جمجمته، وحتى ذلك “الانكسار”، سنشهد المزيد من العجائب والجرائم والأهوال.
اجترحت غزّة البرزخية الطوفان، فكان الزلزال الذي هزّ الكرة الأرضية، ومن اجترح هذه المعجزة، قادر على اجتراح أخرى غير متوقّعة، بعون من خارج غزّة أم بخذلان تام، هذا غير مهم، المهم أن ملحمة الطوفان لم تزل في ذروتها، ومن اختار حياة البرزخ يستحيل عليه أن يعود إلى حياة الدنيا.
المصدر: العربي الجديد