مـــن يــجــيـــب عــلــى هــــذا الــســـــــؤال الـــمـــخـــيــــــــف .. ؟

محمد خليفة

السبت 14 شباط / فبراير 1994 قصد سكان سراييفو المحاصرون سوقا لشراء ما يتوفر من حاجات غذائية . بلغ اكتظاظ الناس في السوق ذروته عند منتصف النهار بعد الساعة 12, وأكثريتهم مدنيون, نساء ,عجائز, أطفال , شبان , يبيعون ويشترون .فجأة أطلق الجنود الصرب قذيفة هاون على السوق فأوقعت 66 قتيلا وحوالي 200 جريح .

ظلت محطات التلفزة تبث صورا مؤلمة اياما طويلة أثارت ردود أفعال عالمية ظلت لفظية تفتقر لأي فعل وتثبت وجود “تواطؤ” بين الدول الأوروبية وخاصة روسيا وقادة الصرب الذين كانوا ينفذون مخططا سريا لمنع قيام جمهورية ذات غالبية اسلامية في اوروبا , وكان للأمم المتحدة نصيب متميز من هذا التواطؤ الفاضح بدءا من سكرتيرها العام بطرس غالي , وانتهاء بجنودها ( الهولنديين) الذين اوكلت لهم مهمة حماية المدنيين في سراييفو, ولكنهم اكتفوا بالتحقيق في مصدر القذيفة القاتلة .

 كل شيء كان سيمر وينسى العالم ما جرى بعد ايام , لولا أن الرئيس الأميركي بيل كلينتون استفزه سلوك الصرب البربري , وسلبية الساسةالأوروبيين , فقرر التدخل لمعاقبة المجرمين بعد سنتين من بدء مذابحهم ضد البوشناق المسلمين .

لم ينتظر كلينتون موافقة مجلس الامن الدولي , ولم يتشاور مع الروس حماة الصرب في المحافل الدولية, ولا مع شركائه الأوروبيين, بل أمر قواته العسكرية بدك مواقع الصرب حتى يرضخوا فاقتادهم كلينتون الى (دايتون) وأجبرهم على توقيع اتفاق سلام أنهى الحرب , فما هي وظيفة القوة إن لم تكن لردع المعتدين..؟ , ثم اقتادهم كلينتون واحدا بعد آخر الى محكمة دولية خاصة , بما فيهم رئيس صربيا سلوبودان ميلوسيفيتش المسؤول الأول عن تلك الحرب وعميله في البوسنة كراجيتش , وعشرات المسؤولين .

وللعلم فقد كرر بيل كلينتون الموقف الشجاع نفسه بعد أربع سنوات لصالح الشعب الالباني المسلم في كوسوفا , حيث تدخلت القوة الجوية الأمريكية لإجبار الصرب على سحب قواتهم مما مكن البان كوسوفا نيل استقلالهم .

وسيسجل التاريخ أنه لولا كلينتون ما وجد من يساعد البوشناق والالبان لأن الصرب كانوا يحظون بدعم الروس والانجليز والفرنسيين واليونان والبلغار.إلخ !

لا بل كانت “الجمهورية الاسلامية” نفسها أقرب الى بلغراد في تلك الازمة منها الى سراييفو ! وكان الرئيس حسني مبارك يدعم الصرب سرا وجهرا !!

لا نسرد ذكريات تلك الأحداث لمجرد استرجاع الماضي غير البعيد , ولكن لنقارنها مع ما يجري في سوريا .

ما اشبه مجزرة (سوق سراييفو) بمجزرة (سوق دوما) يوم الاحد الماضي .؟

66 قتيلا و200 جريحا في الأولى و110 قتلى و300 جريح في الثانية . مواقف الروس والاوروبيين في الاثنتين متطابقة من حيث المسؤولية والسلبية , وكذلك الأمم المتحدة وأجهزتها, إنها النذالة نفسها .

موقف ايران في الأزمة السورية أكثر تورطا وأكثر بشاعة من سابقه , وإن كانت شعارات التغليف واحدة .

مواقف العديد من الدول العربية متشابهة أيضا .

كل هذا رغم أن المذبحة السورية مر عليها حتى الأن زهاء خمس سنوات , وعدد القتلى والضحايا وحجم التدمير يفوق مثيله في البوسنة عشرات المرات, وحجم التهجير في الثانية بلغ أكثر من اثني عشر مليون سوري .

الفارق النوعي الأكبر بين المثالين يكمن في الرجل الذي يسكن البيت الابيض ويمسك بقرار الدولة العظمى حاليا ومثيله السابق قبل عقدين . بين بيل كلينتون وباراك اوباما . هذا الفارق هو ما سمح بوقوع أكبر هولوكست في العالم منذ الهولوكست النازي .

الرئيس الحالي في البيت الابيض يفتقر للحس الانساني أو الضمير الأخلاقي الذي دفع سلفه الاسبق للتدخل في البلقان, ومرة بعد أخرى يظهر اوباما أن سواد وجهه أقل من سواد قلبه الحالك , وأن ضميره ميت مثل ساسة أوروبا وروسيا وقادة المنظمات اليهودية في العالم .

عام 2000 نظم رئيس وزراء السويد يوران بيرشون قمة دولية لاحياء الاهتمام بذكرى المحرقة النازية لليهود , فاثار دهشة زعماء العالم واتهموه بالنفاق, سيما وأنه طالب بتدريس المحرقة في مدارس العالم , وحين سئل عن غاية ذلك قال : لكي لا تتكرر المحرقة مرة أخرى في أي بلد !ما يحدث في سوريا اليوم هولوكست حقيقي لا مجازي ولا افتراضي , وتؤكد الأدلة الحسية والقرائن العقلية أن جرائم القتل والابادة والتهجير والتدمير المنهجية إنما تتم بموافقة ومباركة سافرة من مراكز القرار الدولي , واشنطن وموسكو وبروكسيل .

مجزرة دوما واحدة من مئات المجازر التي وقعت في عشرات البلدات السورية وكلها موثقة بوسائل أحدث مما كان وقت البوسنة .

53 الف صورة سربها رجل أمن سوري منشق ( القيصر) عن طرق التعذيب والقتل المنهجي في المعتقلات تشابه مائة بالمائة ما جرى في معتقلات النازية والغستابو الالماني .

كل ذلك يحدث في ظل صمت دولي يزداد قباحة وقسوة وريبة , وصار يندر أن يصدر موقف واحد يتسم بالحزم , وصار ما يقترفه الاسد يمر بشكل روتيني بلا رد فعل ولو على استحياء . وفوق ذلك يجدد ساسة موسكو وواشنطن والامم المتحدة وتل ابيب ولندن وباريس وبكين وطهران وبروكسيل وستوكهولم والفاتيكان.. إلخ وصولا إلى بوركينا فاسو ولوكسمبورغ ولاتفيا تصريحاتهم بأن على الشعب السوري القبول بحل سياسي بوجود واشراف بشار الاسد نفسه !!!

لا مثيل لهذا السلوك منذ الحرب العالمية الثانية, هناك رجل له نفس مواصفات ادولف هتلر وميلوسيفتش , ومع ذلك يحظى بمباركة عالمية واسعة وحماية صلبة من الجميع الأمر الذي ينم ويكشف بالتأكيد وجود مخطط دولي لا يقل عن مخطط اقامة الكيان الاسرائيلي في فلسطين قبل مائة سنة , ينفذه بشار الأسد وعصاباته وحلفاؤه . ولولا ذلك لما أمكنه الاستمرار بجرائمه بكل طمأنينة, ويحصل على أحدث الاسلحة الروسية مجانا, وعلى التمويل من طهران بلا انقطاع, وعلى مرتزقة من دول كثيرة .

ما يجري اليوم وخاصة في دمشق ومحيطها هو نفس ما اقترفته العصابات الصهيونية عام 1948 من ابادة وترانسفير جماعي للسكان تمهيدا لإجراء تغيير ديمغرافي جذري تحدث عنه الطاغية الاستثنائي بشار الاسد صراحة قبل شهر .

السؤال الملح الآن : ما هو المخطط  الدولي المعد لسوريا والسوريين .؟

وهل هو خاص بسوريا فقط .. أم يشمل دولا أخرى ..؟

سؤال لا يزال جوابه غامضا ومخيفا !.

===

هذا المقال منشور في (مجلة الشراع اللبنانية) العدد 289 الصادر بتاريخ 21 / 8 / 2015 , ولذا وجب التنويه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى