يبدو أن الاتفاقية التي تم الإعلان عنها مؤخرًا والتي أُبرمت على مدى 25 عامًا بين الصين وإيران أصبحت بمثابة أسطورة يتداولها المراقبون لشؤون الشرق الأوسط. فقد تمت المبالغة في أهمية الاتفاقية، لا بل أصبحت موضوعًا لنظريات المؤامرة. وتمت في الوقت نفسه شيطنتها على أنها “معاهدة مخزية” تتيح للصين استغلال موارد إيران الطبيعية على حدّ ما ادّعاه رضا بهلوي عبر حسابه على موقع تويتر، أو دلالةً على “سياسة الصين التوسعية” التي تسمح للصين بنشر جنودها في العالم.
والواقع أن هذه الادعاءات إما تنسجم مع الموقف السياسي للمعارضين السياسيين المنفيين من إيران والذين يرغبون في توصيف النظام الإيراني الحالي بأنه “يبيع مصالح البلد للأجانب” أو يتناسب مع القلق العام الذي يساور المجتمع الغربي حيال ما يُسمَى “التوسع الصيني العدواني”. لكن هذه الافتراضات تسيء فهم الاتفاقية، فهي لا تنطوي على أي بُعدٍ ثوري للعلاقة بين الصين وإيران، بل إنّ الاتفاقية هي بالدرجة الكبرى بادرة صداقة وامتداد طبيعي وغير مفاجئ للعلاقة بين الدولتين. فالصين لا تخطط لنشر جنودها في إيران ولن تُقدِم على مثل هذه الخطوة، ولا تعتزم الانحياز لأي طرفٍ في النزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط.
الشريك الاقتصادي للجميع: استراتيجية الصين الثابتة في الشرق الأوسط
أهمية الشرق الأوسط بالنسبة إلى الصين ثابتةٌ وراسخة بسبب الطلب الهائل لديها على نفط الشرق الأوسط اللازم لدعم صناعاتها التحويلية. لكن المنطقة لم تكن يومًا في جوهر مصالح السياسة الخارجية الصينية. فخلال الحقبة الماوية، كانت مصالح الصين الإقليمية مبنيةً على موقف أيديولوجي قوي يرمي إلى مواجهة “الإمبريالية الأمريكية ووكلاء الولايات المتحدة الإقليميين”. وفي تلك الفترة، كانت الصين تؤكد وقوفها إلى جانب مصر التي كان يحكمها آنذاك عبد الناصر، وفلسطين التي كان يرأسها عرفات، بينما رفضت رفضًا شبه قاطع التعامل مع حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين كإسرائيل. ولكن بعد الإصلاحات الاقتصادية التي قامت بها الصين، أصبحت سياستها الخارجية أقل أيديولوجيةً وانتقلت من “دعم العدالة في العالم الثالث” إلى “مصادقة كل طرف إقليمي فاعل”. وبالتالي، أصبحت استراتيجية الصين الأساسية في الشرق الأوسط تتمثل في تعزيز التعاون الاقتصادي مع تجنّب التحالفات السياسية، والحفاظ على علاقة متوازنة مع كافة الأطراف الفاعلة في المنطقة مع تجنب الانحياز لأي طرف في الصراعات الإقليمية.
واستمرت سياسة الصين الأساسية على حالها في الحقبة الجديدة المتمثلة بعهد الرئيس شي جين بينغ بالرغم من الإعلان عن “مبادرة الحزام والطريق” الطموحة والتحديات الدولية التي تواجه مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط مع التصويت لصالح حكومة الأسد السورية. وفي الخطاب الشهير الذي ألقاه الرئيس الصيني في مقر جامعة الدول العربية عام 2016، أعلن عن مفهوم “اللامبدأ الثلاثي” الشهير، وهو: تتعهد الصين بعدم البحث عن أي وكلاء لها، وبعدم السعي خلف أي مجال من مجالات المصالح، وبعدم محاولة ملء أي فراغ في السلطة في الشرق الأوسط. وانطلاقًا من هذا “اللامبدأ الثلاثي”، أصبحت الصين عام 2016 أكبر مستثمر أجنبي في الشرق الأوسط وحافظت في الوقت نفسه على نفوذ سياسي ضئيل بصورة غير متكافئة في المنطقة. وفي الشرق الأوسط تحديدًا، تتوخى الصين الحذر الشديد من إمكانية جرّها إلى الصراع الدائر بين الأطراف الفاعلة المحلية.
وجدير بالذكر أن هذه السياسة الأوسع ترسم أيضًا معالم العلاقة مع إيران. فهذه الأخيرة هي الشريك الرئيسي للصين في المنطقة، وهي محل تقدير كبير من الصين بسبب قدرة هذه العلاقة على إزعاج الولايات المتحدة. من هنا، أنشأت الدولتان “الشراكة الاستراتيجية الشاملة” بينهما في العام 2016.
غير أن مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة، باعتبارها خصوم إيران في المنطقة، أنشأت هي أيضًا شراكة استراتيجية شاملة مع الصين وتتمتع بكمٍّ هائل من الاستثمارات الصينية على أرضها. وتجلّى هذا التوازن بعد إبرام اتفاقية الخمسة والعشرين سنة حين انعقد بنجاح الاجتماع الوزاري التاسع لمنتدى التعاون الصيني – العربي في 6 تموز/يوليو حيث كررت الصين والدول العربية التأكيد على “الدعم المتبادل في قضايا المصالح الأساسية والاهتمامات الرئيسية”.
وعلى المنوال نفسه، تمتنع الصين عن الانحياز لأي طرف في النزاع الحاصل بين إيران وإسرائيل، وأسّست “شراكة الابتكار الشاملة” مع إسرائيل. واتّضحت مصلحة الصين الاقتصادية مع إسرائيل حين حصلت الشركة الصينية “شنغهاي إنترناشيونال بورت غروب” (SIPG) على حقوق تشغيل ميناء حيفا لمدة 25 عامًا اعتبارًا من العام 2021.
لا شك في أن الصين جادةٌ في توطيد علاقتها الوثيقة أصلاً مع إيران، ولكن هذه العلاقة الوثيقة ليست ولن تكون شرطًا مسبقًا أو عقبة في علاقات الصين الثنائية مع أي جهة إقليمية أخرى على غرار إسرائيل والمملكة العربية السعودية. وبالنظر إلى الاتفاقية الصينية المذكورة مع إسرائيل بشأن تشغيل ميناء حيفا، يتراءى بوضوح أن علاقة الصين مع إيران ليست علاقة مميزة أو فريدة في المنطقة. علاوةً على ذلك، في ما يتعلق بفكرة الانتشار العسكري، تدرك الصين تمامًا حقيقة أن الوعي القومي الأبيّ لدى الشعب الإيراني والثقافة السياسية للجمهورية الإسلامية الإيرانية لن يسمحا بنشر أعداد كبيرة من الجنود الأجانب في إيران، لكنها في مطلق الأحوال لا ترغب في إرسال الجنود إلى إيران لتجنّب الخطر المحتمل بانجرارها إلى صراع مسلّح بين إيران وخصومها الإقليميين.
“أنت تحارب بأسلوبك، وأنا أحارب بأسلوبي”: استراتيجية الصين وتوقعاتها من إيران
على عكس ذلك، فإنّ منظار الصين الإقليمي والعالمي المختلف هو ما يحرّك موقفها من علاقتها بإيران: فمن المنظار الإقليمي، ليست إيران إلا واحدة من شركاء الصين الاقتصاديين في الشرق الأوسط، وليس لدى الصين أي نية بالانحياز لأي طرف في صراع إيران مع دول المنطقة الأخرى. أما من المنظار العالمي، فتُعتبر إيران شريكًا مفيدًا للصين من ناحية تحدّي الهيمنة الأمريكية أو أقله مضايقة الولايات المتحدة. وقد أفضى هذان المنظاران المزدوجان إلى سياسة دقيقة: فالصين مستعدة لدعم إيران بفاعلية في المجالات الاقتصادية والسياسية، ولكنها لا تخطط لدعم إيران في أي صراع إقليمي.
ويُشار إلى أن هذه الإستراتيجية انبثقت عن استراتيجية الرئيس ماو تسي تونغ العظمى لعام 1947، أي “أنت تحارب بأسلوبك، وأنا أحارب بأسلوبي”، التي تطبَّق على نطاق واسع في كل الاستراتيجيات العسكرية والدبلوماسية الماوية تقريبًا. ومثلما يوحي اسم الاستراتيجية، يتمثل جوهرها في أن الصين لن تواجه الضغوط الخارجية بشكل مباشر في المناطق التي يتمتع فيها خصمها بأفضلية استراتيجية، ولكنها ستسعى دائمًا إلى تبنّي موقف هجومي في المناطق التي تتمتع فيها الصين إما بمزايا استراتيجية أو بتكاليف استراتيجية منخفضة. وأصبحت هذه الاستراتيجية الماوية موروثة كتقليد أساسي في السياسة الخارجية الصينية ولا تزال تشكل أساسًا استراتيجيًا للدور الصيني في الشرق الأوسط اليوم، لا سيما في العلاقات الصينية الإيرانية.
بالنسبة إلى الصين، تقع المناطق المحيطة بها (كالبحر الشرقي ومضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي) في صلب مصالحها الأساسية. فالصين لا ترى أمامها في هذه الأماكن سوى خيار الرد العسكري في حال اندلاع النزاعات فيها، ومن المؤكد أن النزاعات في مجالات المصالح الأساسية هذه ستشكل تهديدًا كبيرًا لاستقرار الصين ونموّها. وبالتالي فإن هدف الصين في منطقة شرق آسيا هو تجنّب أي نزاع عسكري فعلي، وفي الوقت نفسه الدفاع عن مصالحها الأساسية التي تتعرض للضغوط الأمريكية.
بالنتيجة، ها هي الصين تستخدم مجددًا استراتيجيات ماو وتتبنى سياسة مرنة: بدلاً من مجابهة الضغط الأمريكي مباشرةً في المناطق المحيطة بالصين، اختارت الصين أن تحارب على طريقتها وأن تتحدى الولايات المتحدة في مناطق بعيدة عن الصين إنما قريبة من مصالح الولايات المتحدة الأساسية. وبذلك أصبحت إيران – بصفتها دولةً تستطيع أن تتحدّى مصالح الولايات المتحدة الأساسية وحلفاءها في الشرق الأوسط، وتقع بعيدًا عن المناطق المحيطة بالصين – أفضل شريك تعمل معه الصين. من وجهة النظر الصينية، لا يترتب على الصين إلا كلفة ضئيلة مقابل دعم إيران اقتصاديًا وسياسيًا. ولن تواجه الصين أي إمكانية انجرار إلى حرب فعلية في الشرق الأوسط ضد الولايات المتحدة، ولكن هذه الاستراتيجية تأتي أيضًا بفوائد كبيرة لأن التوسع الإيراني قادر على التسبب بصعوبات هائلة أمام الولايات المتحدة في المنطقة، في محاولة لإلهاء الولايات المتحدة عن زيادة ضغطها على المناطق المحيطة بالصين وبالتالي تخفيف الضغط عن مصالح الصين الأساسية.
وهذه الاستراتيجية هي أساس الدعم الاستراتيجي الصيني لإيران. وهي تبيّن أن الصين جادة في تعزيز وتعميق شراكتها مع إيران، والاتفاقية الراهنة المبرمة على 25 عامًا هي نتيجة طبيعية لمنحى العلاقة الحميمة هذه، ولكن هذه الاستراتيجية في الوقت نفسه تؤكد أن الصفقة بين الصين وإيران ستكون بطبيعتها محافظةً من الناحية الاستراتيجية. كما تشير هذه الاستراتيجية أيضًا أن الصين لن ترغب في المخاطرة بنشر جنود على الأرض في إيران، لأن القيام بذلك سيزيد من التكاليف والمخاطر التي قد تتكبدها الصين، وهو ما يتعارض مع جوهر استراتيجية الصين المتمثلة في دعم إيران بفعالية وبتكلفة منخفضة نسبيًا ومخاطر منخفضة، فالصين تضع نفسها في المقام الأول.
بعد فهم سياسة الصين المتوازنة والاقتصادية بالدرجة الكبرى في الشرق الأوسط، وكذلك توقعات الصين الاستراتيجية من إيران، يصبح لدينا أسباب كافية للاعتقاد بأن هذه الاتفاقية الجديدة ما هي إلا امتداد للشراكة الاستراتيجية الشاملة القائمة بين الصين وإيران، وبأن هذه الاستراتيجية ستكون ذات طابع محافظ من الناحية الاستراتيجية. والسؤال الأهم حاليًا بشأن سياسات الصين المستقبلية في الشرق الأوسط لا يتعلق بالاتفاقية نفسها بل بما إذا كانت الصين ستظل قادرة على الحفاظ على موقف متوازن بين مختلف تكتلات الأطراف الإقليمية مع تعمّق علاقاتها في المنطقة وتوسّعها. وقد تمكّنت الصين في السابق من الحفاظ على هذا الموقف المتوازن بين مختلف أطراف المنطقة لأنها لم تكن نسبيًا ذات أهمية للمنطقة. ولكن بما أن نفوذها يزداد هناك باعتبارها المستثمر الأكبر، سوف تتغير البيئات السابقة في المستقبل. ولا يزال غير واضح ما إذا كانت الصين قادرة على إنجاز المهام المترتبة عن دور “شريك الجميع في المنطقة”، ذاك الهدف الذي حاولت قوى عظمى أخرى تحقيقه وفشلت.
شنغ دجانغ، هو زميل باحث في معهد تشنغدو للشؤون العالمية في مقاطعة سيتشوان الصينية، كما كان باحث وزميل في المعهد الدولي للسلام في نيبال ومستشار فخري لمؤسسة جيفراج آشريت. نشر دجانغ عددًا من المجلات الأكاديمية في الصين وبريطانيا ونيبال، بما في ذلك المؤتمر الدولي حول الإدارة الاقتصادية والتنمية الخضراء بجامعة أكسفورد.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى