حرب الإبادة في غزّة والحقّ في التعويض

عبد الفتاح ماضي

مع حجم الدمار الهائل الذي تسببت فيه حرب الإبادة على قطاع غزّة، بدأ الحديث عن سياسات إعادة الإعمار وما يرتبط بها من تحديات وعقبات، لكن دون الحديث عن مطالبة الطرف الذي تسبب في كل هذا الدمار، أي المحتل الإسرائيلي، بتحمل المسؤولية عن هذا الدمار، عبر مطالبته بالاعتراف بالضرر وتقديم تعويضات عنه، وذلك وفقًا للقوانين والمبادئ الدولية. نعم، الصراع مع المحتلين والغزاة يقوم على ميزان قوة، ولا شك أن القوة العسكرية هي المحدّد الأساس له، لكن بجانب ذلك، فإن هزيمة المحتلين تتطلب العمل على جبهات متعددة بغرض رئيسي هو إضعاف المحتل وفتح العديد من الجبهات ضده. ومن أهم هذه الجبهات ملف التعويضات عبر المطالبة بالاعتراف والتعويض عن الدمار الذي حدث في غزّة منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بجانب جبهات أخرى مثل المقاطعة الاقتصادية، ورفع الوعي، وتعبئة الشعوب لنصرة هذه القضية العادلة بكل الطرق الممكنة، وملاحقة مجرمي الحرب في المحاكم الدولية وغير ذلك.

إعادة طرح ملف التعويض والقيام بحملة دولية للمطالبة بتحمّل المحتل المسؤولية أمرٌ ممكن، وتتوفر له أسبابه الموضوعية، ولا ينقصه إلا الإرادة السياسية للأطراف المتضرّرة. فأولا حجم الأضرار لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية، وهناك قواعد بيانات عديدة عن الضحايا البشرية، التي يتراوح عددها بين 55 ألفا و78 ألفا ما بين شهيد ومفقود. وهناك أيضاً الأضرار الاقتصادية التي لحقت بقطاعات الزراعة والصناعة والتجارة في مدن القطاع وقراه، والأضرار البيئية والتلوث الناجم عن التدمير والحرائق ومخلفات المتفجرات. فضلا عن الأضرار النفسية والاجتماعية التي تسبّبت الحرب فيها من جراء التهجير القسري والنزوح واللجوء وتداعيات حرب الإبادة وغير ذلك.

حجم الأضرار في قطاع غزّة لا مثيل له منذ الحرب العالمية الثانية، وهناك قواعد بيانات عديدة عن الضحايا البشرية

وهناك ثانيا استناد المطالبة بالاعتراف والتعويض إلى أساس قانوني صلب في القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والبرتوكولات الإضافية لعام 1977 التي تحمي المدنيين والجرحى والمرضي والأسرى والمنشآت المدنية في أوقات الحرب وتُقر بمبدأ تعويض المتضرّرين. وهناك ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 الذي يقر مبدأ محاسبة الدول التي تخرق السلم والأمن، والعهدان الدوليان للحقوق السياسية والمدنية وللحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهما يعترفان بحق الحياة والأمن الشخصي وحق الأفراد في التعليم والعمل والصحة، وهذه كلها أمور انتُهكت في أثناء حرب الإبادة. وهناك نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998 الذي يُجرّم ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الهجمات على المدنيين والمنشآت المدنية. بجانب مواثيق وإعلانات دولية وإقليمية أخرى كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1949، وإعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية لعام 2007، وأخيرا القرارات ذات الصلة بالصراع العربي الإسرائيلي مثل قرار التقسيم لعام 1947 الذي يقر مبدأ التعويض، وقراري مجلس الأمن 242 و338 وقرارات محكمة العدل الدولية وغيرها.

وثالثا، يمكن أن تتم هذه المطالبة عبر العمل من أجل تأسيس لجنة دولية أممية، وكذلك العمل من خلال المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية. ويتطلب هذا الجهد حشد كافة الجهود الممكنة، لكنه يتطلب في المقام الأول تجاوز الانقسام الفلسطيني القاتل واتحاد الصوت الفلسطيني وراء حكومة من شخصيات وطنية مشهود لها بالنزاهة على أن تكون كافة الفصائل داعمة لها سياسيا وشعبيا؛ حكومة تتحدث فقط عن الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، وتقود نضالا سياسيا ممتدا وجهدا منسقا على كافة المستويات السياسية والقانونية والاقتصادية، وبالتعاون التام مع خبراء القانون الدولي والمنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية، والمجتمع الدولي، خاصة الدول التي تملك بعض النفوذ على دولة الاحتلال، وذلك من أجل تحقيق ما يمكن تحقيقه من إنجازات تتراكم على الطريق الطويل من أجل التحرير والاستقلال.

إعادة طرح ملف التعويض والقيام بحملة دولية للمطالبة بتحمّل المحتل المسؤولية أمرٌ ممكن، وتتوفر له أسبابه الموضوعية

رابعا، ثمة سوابق دولية عديدة في هذا الشأن، فعديدٌ من الدول خاضت نزاعات وحروب وقع على معاهدات “تعويضات الحرب” وتحمل المسؤولية عن الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها. في العام 1952، وُقّعت اتفاقيات رسمية حصل بموجبها الكيان الإسرائيلي على تعويضات سخية من ألمانيا الغربية عن الأضرار التي تعرض لها اليهود في معسكرات الإبادة النازية. كان هناك اعتراف بالمسؤولية عن الجرائم التي ارتكبتها حكومة النازي خلال الحرب، وتسوية مالية حيث ذهب جزء من التعويضات لدولة الاحتلال للمساهمة في بناء الدولة وتوفير الدعم للناجين من الجرائم، وأخيراً، كانت هناك تعويضات أخرى ذهبت مباشرة إلى الناجين اليهود من الانتهاكات. كما وُقعت اتفاقيات أخرى، وقدمت ألمانيا تعويضات لبولندا وغيرها. وقدمت اليابان أيضا تعويضات لكوريا والصين.

وأخيرا، ليس من المتصوّر أن ترضخ دولة الاحتلال في ظل ميزان القوة العسكرية المختل، إلا أن مثل هذا الجهد سيدفعها دفعا إلى موقع الدفاع عن النفس، كما أنه سيفيد في جبهات النضال الأخرى، فهو أداة ضغط جيدة على طاولة التفاوض حول أي هدن مستقبلية أو أي محاولات للتفاوض من أجل انهاء الاحتلال وتنفيذ حق تقرير المصير، وكذلك في حملات المقاطعة والضغط على الشركات الدولية الكبرى التي تعاونت مع دولة الاحتلال وقدمت لها السلاح والمعدات التي ساهمت في الانتهاكات. كما أنه أداة مفيدة في تعزيز التوعية الإعلامية العالمية، وحملات الحشد الشعبية والتظاهرات الداعمة في كل أنحاء العالم.

لا أمل حتى االلحظة في أن تتحرّك الحكومات العربية لنصرة هذا المسار، لكنها قد تُغير موقفها إذا أدركت أنه مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في الولايات المتحدة، فإن حكومة الاحتلال سوف تُخرج من جديد الملف الذي أعدته من قبل ضمن ما كان يُسمى صفقة القرن، والذي يحتوي على ما يسمى الفحص الشامل للممتلكات التي تركها اليهود الذين كانوا يعيشون في نحو عشر دول عربية وإيران وخرجوا منها بسبب الصراع العربي الإسرائيلي، وبموجب هذا الملفّ، ستطالب دولة الاحتلال بتعويضات، قُدرت بنحو 250 مليار دولار، عن تلك الممتلكات. وبالمناسبة أيضا، ألزمت دولة الاحتلال نفسها – بموجب قانون سنه الكنيست عام 2010 – بتضمين ملفّ ما أسمته “تعويض أملاك اليهود” في أي تفاوض من أجل السلام مع الدول العربية.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى